دراسة في سيرة العلامة أبو بكر ابن العربي

دراسة في؛ سيرة أبي بكر ابن العربي، وفي كتابه الأمد الأقصى،

تأتي هذه الدراسة في إطار عرض حول المصنفات في العقيدة الأشعرية. الكلية متعددة التخصصات - السمارة. 

عرض تضمن مطلبين وهما؛ دراسة في سيرة الإمام بن العربي علمه وأهم شيوخه، ثم دراسة وتقريب لكتاب الأمد. وفي هذا المقال سنتناول المطلب الأول والمعنون ب:

سيرة القاضي أبو بكر ابن العربي وعِلمُه وأهم شيوخه،

أ‌. ترجمته؛

الإمام العلامة الحافظ القاضي، أبو بكر، محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله، ابن العربي الأندلسي الإشبيلي المالكي، صاحب التصانيف، سأله ابن بشكوال عن مولده، فقال في سنة ثمان وستين وأربعمائة،

كان أبوه محمد من كبار أصحاب أبي محمد بن حزم الظاهري بخلاف ابنه القاضي أبي بكر، فإنه منافر لابن حزم، مُحِطٌ عليه بنفس ثائرة [1]. ارتحل مع أبيه عند انقراض الدولة العبادية إلى الحج، سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وسنه إذ ذاك نحو سبعة عشر عاما، فلقي الشيوخ بمصر .. وقيد الحديث، وضبط ما روي، واتسع في الرواية، واتقن مسائل الخلاف والأصول والكلام على أئمة هذا الشأن، وعاد إلى بغداد بعد أن خرجها، وانصرف إلى المشرق فأقام بالإسكندرية، فمات أبوه بها أول سنة ثلاث وتسعين. ثم انصرف إلى الأندلس عام 495ه فسكن ببلده إشبيلية، وسمع ودرس الفقه والأصول، وجلس للوعظ والتفسير، وصنف في غير فنٍّ تصانيف مليحة، حسنة مفيدة، وولي القضاء مدة، أولها في رجب من سنة ثمان وعشرين، فنفع الله به لصرامته ونفوذ أحكامه. وإلتزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى أودي به في ذلك بذهاب كتبه وماله، فأحسن الصبر على ذلك كله، ثم صُرِف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم وبثه، وكان وضيحا حافظا، آديبا شاعرا، كثير المُلَح مليح المجلس.

توفي رحمه الله عام 543ه منصرفا من مراكش، بعد لقائه بعيد المؤمن ابن علي، وفي طريقه إلى إشبيلية مر على فاس فتوفي بأحوازها، ببلدة تسمى مغيلة، فاحتمل مبينا بعد أن صلى عليه صاحبه أبو الحكم ابن حجاج، ودفن خارج باب المحروق. ويجوز أن يكون قد مات مسموما، كما ورد في كتاب الصومعي[2]. ولعله المتعين، والله أعلم[3].

ب‌. ثناء العلماء عليه؛

قال فيه شيخه أبو حامد الغزالي "الشيخ الإمام أبو بكر، قد أحرز من العلم في وقت تردده إليه ما لم يحرزه غيره من طول الأمد، وذلك لما خُص به بعناد الذهن، وذكاء الحس، وانتقاذ القريحة، وما يخرج من العراق إلا وهو مستقل بنفسه، حائزا قصب السبق بين أقرانه".

وقال فيه شيخه أبو بكر الطُرْطوشي: "والفقيه أبو ببكر محمد بن عبد الله ابن العربي ممن صحبا أعواما، يدارس العلم ويمارسه، بلوناه وهبرناه، وهو ممن جمع العلم ووعاه، ثم تحقق به ورعاه، وناظر فيه وجدّ، حتى فاق أقرانه ونظرائه".

وقال فيه تلميذه الحافظ ابن شكوال: "الإمام العالم، الحافظ المستبحر، خاتم علماء الأندلس، وآخر أئمتها وحفاظها ... كان من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها، متقدما في المعارف كلها، متكلما في أنواعها، نافدا في جميعها، حريصا على أدائها ونشرها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها، ويجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق، مع حسن المعاشرة، ولين الكنف، وكثرة الاحتمال، وكرم النفس، وحسن المهد، وثبات الود".

ويقول تلميذه الأخر، القاضي عياض "سمع ودرس الفقه والأصول، وجلس للوعظ والتفسير، ورُحِل إليه للسماع، وصنف في غير فنّ تصانيف مليحة، كثيرة حسنة مفيدة ... وكان فيها نبيلا، فصيحا حافظا، آديبا شاعرا، كثير الخير، مليح المجلس ...".

وقال فيه الحجازي "لو لم ينسب لإشبيلية إلا هذا الإمام الجليل لكان لها به من الفخر ما يرجع عنه الطرف وهو كليل". وقال الفقيه جمال الدين المَغيلي في وصف معارفه وعلوم "إني تأملت ما قسمه الله تعالى القاضي أبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي من العلوم الشرعية والعقلية، والفهم في الكتاب والسنة، والتمييز بين صحيح الأثر وحسنه وضعيفه (...) وتوقضه إلى نصوصها، وظاهرهما، ودليلهما، وإشارتهما، وفحواهما، ومعناهما، ومعرفته بالوصف الملغي والمعتبر، والعلم بطرق الترجيح، وكان آخر ما صنفه كتابه المعروف بسراج المريدين".

وقال فيه ابن الذهبي في الشّير: "كان ثاقب الذهن، عذب المنطق، كريم الشمائل، كامل السودد"[4].

ت‌. طريقة ابن العربي في بحث المسائل وانشغاله بالعلوم ومواطن التقصير فيها،

ويملك مع مُناظِره مسالك البحث والتفتيش، ولا يمنعه من النظر رياسة رئيس في عمله، أو كبير فهمه، مع التولع بالتنقير، والاستظهار بالتعليل، فيهجم على القول هجمة عقلية، ويزن الكلام بنظرة شرعية، ثم يفرع المردود عليه تفاريع لا تعد، وينوع في إجابته تنويعا لا يحد، فما يزال مع خصمه حتى يطرحه، وهو بعد مشفٍ على هلاك قوله، فقد أوتي القاضي جدلا، ولم نرَ لأحد قدرة على السبر والتقسيم، وضم النظير إلى شبيهه، والمعنى إلى محاديه، كما رأينا عنده، هذه سيرته مع النظر، وهذه طريقته في بث الفكر.

وقد اعتنى ابن العربي في تدريسه أو تأسيسه على دلالة الناس إلى عيون الفنون والاهتبال بمواضيع الإجادة والإفادة من كل تصنيف، فيبسط للطالب مقاصده، ويريه معاقده، ويلعث في ذهنه الكاتب وصاحبه، فترى الفرائد ترفل في حلل السلامة، وتبتهج بوفور الكرامة، وهذا شأنه مع الموطأ وسنن الترميدي[5].

ث‌. اتساع الإمام الحافظ أبي بكر ابن العربي في الرواية،

كان غالب هم ووكْدِ من رحل إلى المشرق الرواية عن أعيانها وأكابرها، وغالب الناس إنما اغتنوا في دراستهم بسيرة القاضي أبي بكر بتفقه ومصاولته للمتكلمين، وغاب الدرس الحديثي عنهم، أو لم يعطوه حقه من الاغتماء، إلا قلة قليلة تولهت بالتنقير عن معالم من تفنناته في الرواية قوانينها.

ويكفي أن نقول: إن كثيرا من أسانيد الأندلسيين متصلة به، ويظهر ذلك في كتاب الفوائد لابن بشكوال، وكتاب ابن الطيْلسان في المسلسلات، وكذلك في أجزائه الحديثة التي صنفها القاضي، وفي الأجزاء التي أدخلها إلى الأندلس.

وقد ذكر طرفا من رحلاته الحديثة في سراج المريدين، وطرفٌ آخر يظهر في كتب البرامج والفهارس الأندلسية، مثل برنامج ابن خير الإشبيلي، وبرنامج ابن عبد الله الحجري، وإفادة النصيح والرحلة لابن رشيد، وفهرس المنتوري. وقسم آخر يظهر في كتب الصِلات، لابن بشكوال، وابن الآبار، وابن الزبير، وابن عبد الملك، فقد نثروا في تضاعيف تراجمهم ونصوا على رواية الجم الغفير من أهل الأندلس عن القاضي أبي بكر، بل يتصدر القاضي طبقته في المأخوذة عنهم، ولا يقاربه أحد من أهل الغرب، والأندلس في زمانه إلا ما كان من ابن ورد الرُّشاطي.

ومن كتب الرواية التي أخذها الناس عنه بالأندلس:

"الاستدراكات للدارقطني، الإلزامات له، الطبقات لمسلم، جزء فيه حديث أبي عبد الله البخاري، جزء فيه الناسخ والمنسوخ لأبي داود، عوالي أبي بكر ابن زيدان جزء من حديث أبي، للحسين امبارك بن عبد الجبار، معرفة من يدور عليه الأستاذ لعلي بن المديني، فوائد عن أبي الحسين الطيوري".

وينظر أيضا لروايته لكتب السنة، من الموطأ، والصحيحين، وجامع الترميذي، وممن روى عنه جامه الترمذي ابن سحنون رحمه الله.

ج‌. مصنفاته ومنوعاته،

القاضي أبو بكر ابن العربي من المكثرين في التصنيف، وله نظر خاص حاول من خلاله أن يجمع أصول العلوم في معارف ثلاث؛ التوحيد، والأحكام والتذكير، وفي كل فن من هذه الفنون له مصنفات عدة، ورسائل ومسائل. سنذكر في بحثنا هذا بعض ما استجد من أخبار تراثه وآثاره:

- تلخيص الطريقتين: وهو من كتبه التي ذكرها كثيرا في الأحكام، وسماه بأسماء عدة وهو اليوم محفوظ بخزانة القرويين، قسم الخروم،

- تنبيه الغبي إلى قدر النبي: رسالة لطيفة، من محفوظات الخزانة المكتبية بمراكش، وهي من كتب الفقيه الحافظ عبد الحي الكتاني يرحمه الله،

- نكت المحصول: وهو اختصار المحصول في أصول الفقه، أملاه بقرطبة، ونشر خطأ باسم المحصول، وله نسخة بمكتبة الملك عبد العزيز بنجد، وقد اعتبره بعضهم مفقودا، وهو من رواية الفقيه الحافظ ابن القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن يوسف بن حُبيشٍ عنه،

- مسائل الخلاف: وهو من كتبه الكبار، وذكر لنا الدكتور سيدي أحمد البو شيخي أن قطعة منه كانت بخزانة القرويين، واطلع عليها الفقيه العلامة ابراهيم الكتاني محافظ المخطوطات بالخزامى العامة برباط الفتح، وقد بحث عنه بعد ذلك فلم يوجد،

- ترتيب المسالك: يرويه عن القاضي ابن عبد الله الحجري، وسماه في فهرسته ترتيب المسالك في شرح موطأ مالك، وزعم السليماني أن أول من سماع بهذا الاسم هو الفقيه محمد بن عبد السلام الهواري، بل الذي سماع هو ابن عبد الله كما ذكرنا، ولعله من المتعين نشر الكتاب بالاسم الذي سماع به في فهرسته، وهو أحد تلاميذه وأحد الرواة عنه العارفين بمصنفاته،

- النيرين في شرح الصحيحين: البخاري ومسلم، وهو من الكتب التي يرويها ابن عبد الله الحجري، أخبره به القاضي، ولا نعلم أحدا يرويه غير الحجري هذا[6].

ح‌. مشايخه الذين فتحوا له باب النظر والاجتهاد،

وغالبيتهم من متفقهة المشرق ممن لقيهم ببيت المقدس، وسنقتصر هنا بذكر شيخين فقط على سبيل المثال وهما؛ الإمام الطرطوشي، وأبي حامد الغزالي؛

- الإمام الطرطوشي: هو أبو بكر محمد بن الوليد ابن محمد بن خلف بن سليمان ابن القرشي الفهري الطرطوشي، المشهور بابن أبي رندقة. ولد في سنة 450 أو 451ه، وقد تلقى أبو بكر محمد بن الوليد علومه الأولى في مسجد طرطوشة، ثم رحل إلى مدن الأندلس الكبيرة الأخرى يستزيد من علومه فذهب إلى مدينة سرقسطة، واتصل بكبير علمائها في ذلك الوقت القاضي أبي الوليد الباجي، وأخذ عنه مسائل الخلاف، وسمع منه، وأجاز له[7].

- أبو حامد الغزالي: هو محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي، أبو حامد، حجة الإسلام فيلسوف، متصوف، له نحو مئتي مصنف، مولده ووفاته في الطابران ( قصبة طوس، بخرسان)، رحل إلى بينسابور ثم إلى بغداد فالحجاز فبلاد الشام فمصر، وعاد إلى بلده. نسبته إلى صناعة الغزل ( عند من يقوله بتشديد الزاي) أو غزالة ( من قرى طوس) لمن قال بالتخفيف.

من كتبه؛ الاقتصاد في الاعتقاد، الفرق بين الصالح وغير الصالح، إلجام العوام عن علم الكلام، ..[8].

الهوامش؛

[1] سير أعلام النبلاء، الإمام شمس الدين محمد بن أحمد ابن عثمان الذهبي، ج 20، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 1، ص 198.

[2] المعزى في أخبار أبي يعزى، للصومعي.

[3] سلسلة مؤلفات الإمام أبي بكر ابن عربي، الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، ص 17 بتصرف،

[4] المصدر السابق، ص 21،

[5] نفس المصدر، ص 22-23، بتصرف،

[6] المصدر نفسه، ص 29،

[7] أبي بكر الطرطوشي العالم الزاهد الثائر، جمال الدين الشيال، ص 6،

[8] المستصفى من علم الأصول، أبي حامد الغزالي، ص 4،

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق