قراءة ودراسة في كتاب الأمد الأقصى... لابن العربي

دراسة وتقريب لكتاب الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى لابن العربي،

سنقدم في هذا الباب دراسة شاملة لكتاب الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، في محاولة لتقريب مختلف حيثياته وجوانه ومضامينه، لذلك سنعمل على تناول الكتاب من ناحيتين؛ خارجيا، من حيث زمن تصنيفه والغرض منه وذكر بعض مناظرات صاحبه. وداخليا، حيث سنعرج على نظام الأمد وترتيب فصوله ولغته وأهم الأسماء التي ضمنها ابن العربي فيه.

أولا : الدراسة الخارجية للكتاب:

أ‌) زمن تصنيف الأمد والغرض منه

وهو من المباحث التي ينبغي البحث فيها، وحديث القاضي عن مصنفاته الأول حديث نادر لا تكاد تطالعه إلا في كتبه المتأخرة، بعد الفتنة التي امتحن فيها.

ولكن لن أن نقول إن فكرة تأليفه للأمد كانت أمنية عزم عليها القاضي أيام دراسته، على شيخه أبي حامد، وهو يتردد إلى مجلسه، ولسنا نشك في أن القاضي ابن العربي قد طالع كتابه في تفسير أسماء الله الحسنى، فاستقام في داخلته أن يصنع كتابا على مثال لم يسبق له، فجمع مادته في سفرته ورحلته، وقيدها في وريقاته، وهو يمنّي نفسه به، ويحدث قلبه بإقامته، وإن كان قد سُبق إلى التأليف فيه سَبْقٌ لم يمنع على المتأخر النظر، كما لم يمنع من قبل توارد الفكر.

وقد استولى كتاب أبي حامد الغزالي على مجامع قلبه، فنهج بنهجه، وسار بسيره، وإن كان لم يذكره باسمه المعرِّف به، فلا ريب أن المطالع لكتابه واقف على رسمه، موقن من اسمه، فهو يُهمله، ومرة يُكرمه، ومرة يقول أستاذ الحقائق، ناهجا نهجه في سبك الطرائق.

فهل سمع القاضي من أبي حامد تصنيفه في الأسماء الحسنى؟

لا نجد في مختصر رحلته في طليعة قانونه ما يعين على تقفي السماع لكتابه، ولعله ذكره في أصل رحلته الذي ضاع في زمانه، وقد ذكر في الأمد ما يستدل منه على مباحثه للامام الغزالي في بعض مسائل المقصد الأسنى.

غير أن رغبته في تأليف الأمد لم تغب عنه، وظلت حاضرة في ذهنه يتطلب وقتا وزمانا مناسبا، ويدل عليه قوله في شأن الأسماء "عندي فيها بدائع لا يحتملها هذا المتوسط، لعل الله أن يسامح بوقتها"، وكذلك قوله "ولعل الله أن يهب وقتا وحالا يبين ذلك فيه بيده وفصله".

ويغلب على ظننا أن الأمد من أواخر مصنفاته، ألفه وصنفه بعد عزله من قضاء إشبيلية، أيام مقامه بقرطبة، بعد529هـ، وألفه وأنهاه وقد شرع في كتب أخرى، مثل الأحكام، وشرح الترمذي، والقبس، والقانون، وقد كان غرضه أن ينتهي من مشروعاته العلمية، بعد أن رأى الأيادي الآثمة تمتد الى ثبات فكره، وزهرات عمره، بالإتلاف والأرجان، فكان أن شرع في مصنفاته التي ذكرنا، وكلها على نمط واحد من الشكوى من تغير الزمان، وقلة العلم وذهابه، وندرة المفتين بأصله ولبابه.

فكان أن جرد قلمه ليستدرك ما فاته، غير أنه سابق للأحكام بدلالة ذكره لإنهائه في فصوله، وأيا ما كان الأمر فهو قد أنهاه بعد 529هـ. هذا الذي بدا والله أعلم[1].
ولقد تأكد لنا بعد مطالعة الكتاب، وتقليب معانيه ومراميه، أن القاضي أراد به إتمام القسم الأول من مشروعه العلمي، وهو قسم التوحيد، الذي صنف فيه كتبه العقدية التي منها: العقد الأكبر، والمتوسط، والمُقسط...

ب‌) مناظراته ومحاوراته:

سنبين في هذا الجانب مناظراته لشيوخ المذهب الأشعري، ومناظراته للطوائف والفرق الأخرى: وأهمها القدرية.

بالنسبة لمناظراته لشيوخ المذهب: فقد تناول القاضي في أمده أكابر علماء الأشاعرة بالنقد لكلامهم مرة، وبالنقض له أخرى. ولم يسلم من اعتراضه في انتهاضه إمام المذهب ومؤسسه أبو الحسن الأشعري (ت348هـ)، ولا لسانه وحامل لوائه ابن الطيب الباقلاني(ت403هـ). ولا أستاذه وجامع مقالاته ابن فورك(406هـ)، ولا مناظره وحجته أبو اسحاق الإسفراييني(481هـ)، ولا مختصره وباعته أبو المعالي(ت478هـ).

ونورد في مبحثنا هذا نبذة مختصرة للتدليل على طريقة القاضي في النقد والمفاتشة والمناظرة لتعلم ولبيان نهجها:

✓ مناظرته للإمام أبي الحسن الأشعري:

ومن المباحث التي خالف فيها القاضي الشيخ أبا الحسن: ما ذهب إليه القاضي في وجه اشتقاق اسم الله، فكان من مذهب أبي الحسن أن "معنى ذلك أنه القادر على إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، وذلك أن هذا الإسم لما كان مختصا به لايشاركه فيه أحد حتى يكون اللفظ طبقا لمعناه ومماثلا في اختصاصه له.

والموضوع الآخر الذي اعترض فيه القاضي كلام أبي الحسن هو: في تغيير معنى اسم الله نور، فقال القاضي: "وإذا قلنا إنه نور لا كالأنوار فإنما ذهب في ذلك الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه إلى ظاهر الكتاب والإطلاق الشرعي من غير نظر في تأويل، ولا فرق عن ظاهر، كما قلنا، إنه موجود لا كالموجودات، حق ليس كسائر الحقائق".

وكأنه يقول: إن هذا القول الذي قاله الشيخ واعتبره لا مزية له فيه، ولا يظهر فيه فضل أو نبل، وإنما فسر لفظا بلفظ، وهو ما لا يستقيم، فتقول: إن الله موجود لا كالموجودات، حق لا كسائر الحقائق، فلا يعجز أحد عن قول ذلك وترديده.

✓ مناظرته لابن فورك

قال ابن فورك" إن قولك هو" كلمة مركبة من حرفين: الهاء وهي من حروف الحلق، والواو وهو من حروف الشقتين، والحلق أوَّلُ مَحالِّ الحروف، والشفتان وآخرها، فدل ذلك على أن منه المبتدأ وإليه المنتهى".

قال القاضي أبو بكر هذه أغراض صوفية محوِّمة على الحقائق، وإن كان لم يقع بها أنس لكم، وابن فورك شيخ من شيوخهم، وإمام مقدم فيهم.

وفي قولهم هذا تعريفه بابن فورك، ونسبته الى طريق المتصوفة، وقد عرف عن القاضي مجانبته لطرائقهم، ومباينته لمسائلهم، ثم كلام ابن فورك لا يلامس الحقائق ويقربها وإنما هو جار على رسم التذوق والعرفان، وهو من المعاني تشم ولا تفرك.

ومن مواضع انتقاد ابن فورك تفسيره للعزة في قوله تعالى "سبحان ربك رب العزة عما يصفون" (الصافات.الآية180) بقوله: ليس معنى هذا تلك العزة التي هي صفة، وإنما معناه أنه عز عما يصفونه، المراد بذلك الإنكار على من وصفه من المشركين بالولد. والتقدير: سبحان ربك الرب الذي عزَّ عما يصفونه".

قال أبو بكر ابن العربي "هذا كلام لا ينجبه عما وقع السؤال عنه من إضافة العزة إلى الربوبية، والجواب الصحيح أن العلم والقدرة والإرادة والعزة وسائر الصفات الإلهية التي ينطبق اسمها على القديم والمحدث كلها تضاف إلى الله تعالى، أما القدسية فتضاف إليه تحقيقا ووصفا، وأما المحدثة فتضاف إليه تقديرا وخلقا ومِلكا، فالعلم له صفة وله خَلْقٌ، والعزة له صفة وله خَلقٌ، أعطى منها العدد المحدث ما شاء ووهبه ما أراد، فهو المتصف بالعزة القديمة الأصلية، وهو المالك للعزة المحدثة...، ويكون معنى الآية أنه سبحانه رب العزة، يعطيها للخلق فيعتزون عما يكرهون، ويدفعون ما لا يستحسنون، بالمقدار الذي آتاهم منها، فهو سبحانه بما وجب له من ذلك وما خلق وما ملك أولى أن يَعْتَزَّ عما نُسِبَ إليه".

فبين القاضي غلط الأستاذ، ونسب لله صفة العزة، كما هو الشأن في العلم والقدرة وغيرها من الصفات.

 مناظرته للقدرية؛

رد ابن العربي على القدرية في أكثر من عشرين موضعا من الكتاب، إما تصريحات أو تلميحا، غير أن رده عليهم كان أغلبه في المواضيع التي تنافي بدعتهم الخاصة التي هي نفي قدرة الله عز وجل المطلقة في خلقه.

ومن هذه المواضيع عن كلامه على اسم الله "الملك" وتقرير كونه مالك لكل شيء وكل فعل، قال -رحمه الله- "وأصل العقيدة الصحيحة في ذلك أنه المالك لكل فعل ولا يصح ان يكون عليه حظر من حاضر، فوجب أن يحين منه جميع ما فعل على الابتداء، ولا يصح ان يَقْبُح منه شيء، لاستحالة أن يكون غير مالك لشيء، أو أن يكون عليه زجر ونهي، فيجب الحكم بتحسين جميع أفعاله، وحصل الفرق بينه وبين غيره من حيث يمتنع فيه مثل وصفه وهذا معنى فات القدرية، لا يقدرون عليه ولا يعتقدون الحق فيه".

وعند كلامه عن اسم الله "الخالق"، إذ أوجب اختصاص الله تعالى بحقيقة الخلق بمعنى الايجاد دون العبد، فقال "وقد اقتحمت القدرية هذه الشنعاء فسمت العبد خالقا، بمعنى مخترع، وأوجبت ذلك له، وقد بينا فساده في كتب الأصول".

ومن المسائل التي انتقدهم فيها قولهم بخلود مرتكب المعصية في النار إذ لم يتب منها قبل الموت، فلم يبق عندهم مكان لاعتقاد اسم الله "العفو" قال رحمه الله: "اعلموا أن القدرية وإخوانها لا يرون لكون الله تعالى عفُوًّا معنى، لأن المذنبين على ثلاثة أقسام: إما كافر، وإما عاص بالكبائر، وإما عاص بالصغائر، فأما الكافر ففي النار بالإجماع، لا يلق به عفو ولا مغفرة، وأما العاصي بالكبائر فهو عندهم كالكافر، وأما العاصي بالصغائر فهو عندهم في الجنة قطعا، لا يجوز أن يعذب، فأين عفو الله ومغفرته؟".[2].

ج- موقع الأمد بين كتب الأسماء؛

وهو بعد مباين لكل كتب الأسماء، فلا يوجد كتاب يدانيه بالأحرى، أن يجاريه، وقد فاق كتب من تقدمه لنظره في الاشتقاق، وتعويله على انتقاد المقالات الكلامية، والمذاهب العقدية، ومكنه تفننه في اللغة واقتداره على علومها من تزييف كثير من الآراء لعدم تنبه أربابها، كما مكنته مداخلة أرباب المقالات وأشياخ الطوائف من النفوذ إلى مقاصد أقوالهم ومعاقد عباراتهم، فمحص كل ذلك بنظرة الشرع الحكيم، وهدي البيان القويم.
فكُتُب الأسماء التي سبقت الأمد لم تتوسع فيما توسع فيه، ولم تنظر إلى ما نظر إليه، وقدرة القاضي على التفريعَ والتقسيم، والتنظير والتعليل، والجمع بين متفرق المعاني ومختلِفها، وتوجيه الأقوال، وشطير الأدلة، وترتيب المسائل، كل ذلك لم يسبق إليه، ولا حوّم من حوّم عليه، فهو أخذ من المصنفات السالفة لُبابها، وزاد من عنده وهذّب من فكره ما أوفى على المراد.

ومن المفيد أن نذكر كتب الأسماء التي تقدمته لتُعلَم وتُعرف، وقد كان الناس قديما يدخلون مباحث الأسماء في كتب "الصفات" و"التوحيد" و"الإيمان" كما فعل ابن خزيمة (311ه) في كتاب "التوحيد"، وابن منده (ت 395ه) في كتاب "التوحيد ومعرفة أسماء الله عز وجل وصفاته على الاتفاق والتفرد"، وهذه بعض كتب الأسماء التي ألمعنا إليها قبل؛

تفسير أسماء الله الحسنى، لإبراهيم بن السِري الزجّاج (ت 311ه). وهو أصل كثير من كتب الأسماء، وعوّل عليه القاضي في الأمد على صغر حجمه، ورتب الشرح فيها على ما جاء في رواية الترمذي لحديث الأسماء.

علم أسماء الله تعالى لأبي جعفر النّحاس (ت 338ه)، وهو من الكتب التي أفاد منها القرطبي في شرحه بأسماء الله الحسنى.

اشتقاق أسماء الله عز وجل وصفاته المستنبطة من التنزيل وما يتعلق بها من اللغات والمصادر والتأويل لأبي القاسم الزجاجي (ت 340ه). وقصّر مخفِّقه في عنوانه، فلم يثبته كما جاء في وقته الأولى، وكذلك سماه القرطبي في شرحه لأسماء الله، وهو أوسع مادة من كتاب شيخة الزجاج، استشهادا، واشتقاقا، وتقريرا لمذاهب النحاة واللغويين.

شرح أسماء الله للأستاذ ابن فَوْرك (ت 406ه). كتاب من الكتب التي أدخلها القاضي إلى الأندلس في صدره من المشرق، ولا ذكر له في كتب التراجم، ولا في فهارس المخطوطات، وممن آفاد منه الشكوني (ت 716 ه) في رده على الكشاف، فنقل منه عند تفسير اسم الله القديم[3].

ثانيا : الدراسة الداخلية للكتاب

أ – نظام الأمد وترتيب فصوله:

وآية ذلك أنه محكم متين، قد انتهى منه مصنفه وهو في أوله، وقد انطبع في ذهنه وتصور وجوده، وتعين مدوده، فما زال يخبر به إخبار الواصف العارف، ولا يزال يردده في مجالسه، وقد أقامه القاضي ناظرا فيه إلى ضيع شيخه وقريع دهره الإمام الحجة أبي حامد الغزالي، فقال في مقدمته: "وقد سبق إلى هذا المعنى جماعة من المتقدمين، جاؤوا مستأخرين ومستقدمين، ومنهم من أوعب وأطنب، ومنهم من هذّب وقرب..."، فكان كتاب القاضي ابي بكر على طريق شيخه، فكما ابتدأ أبو حمد الغزالي بالسوابق ابتدأ القاضي أبو بكر بها أيضا، فتناول من المسائل ماتناول، وربما زاد عليه، وأخّر أبو حامد اللواحق فتابعه فيها كذلك، ثم واسطة الكتاب تناول فيها القاضي ما تناول أبو حامد من تفسير الأسماء، وتابع شيخه في مباحث التخلق بأسماء الله تعالى، وشيخه تابع فيها الإمام القُشيري، وإن كان للقاضي شغوف في التنزيل كما يأتي بيانه.

ومع هذا كان القاضي ابو بكر نقّداً لكلام شيخه أبي حامد، منقرا عن هفواته، متسقطا لزلاته، حتى ناله ما ناله، وطغى به القلم فيما قاله.
فقال مبينا عن ذلك، كاشفا لتلك المسائل" وربما اقتحَم فيها – على سيرته- أمورا لا تطاق، وجاء بألفاظ يضيق عنها النطاق، سنفاوضه فيها ما أمكن. ونعرض عما أستبهم، احتشاما لجانبه الرفيع، واغتناما لبيانه البديع".
وجعل الكتاب في أربعة أقطاب، وكل قطب يشتمل على فصول وأصول وتمهيدات وفروع وتقسيمات.
• القطب الأول: في ذكر أسماء الله تعالى على الجملة والتفصيل وذكر مواردها واختلاف الروايات فيها.
 القطب الثاني: في ذكر سوابق وفواتح لابد من تقديمها بيانا لما عسى أن يستبهم من أغراضه.
• القطب الثالث: في شرح معانيها وإيضاح مقتضاها.
• القطب الرابع: في ذكر متممات بها يكمل المقصود ويحصل بفضل الله المطلوب.

وكان أكبر هذه الأقطاب وأوفاها هو القطب الثالث، لتضمنه لشرح الأسماء وتفسيرها، مع ما يلحقها من تأصيل وتفريع، واستنباط وتعليل، فجعل دراسة كل اسم من أسماء الله في فصول أربعة:

¶ الفصل الاول: في مورده شريعة؛ ويورد مواضع وروده من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، مع النص على الإجماع إن كان اللفظ مما ورد به في القرآن خاصة.

¶ الفصل الثاني: في شرحه لغة؛ ويعوّل فيه على الإشتقاق مع ضمّ النظير إلى نظيره، والتمييز لضعيفه من شهيره، مع الإقتدار على الجمع بين المعاني والأقوال، والدلالة على القدر المتفق عليه من المعنى المختلف فيه، متيقظا الشاهد الموضوع، ناظرا إلى حقيقة اللفظ ومجازه.

¶ الفصل الثالث: في شرحه عقيدة؛ وهو قطب رحى الكتاب، وفيه تفنن القاضي أبو بكر، وكشف عن مكونات جواهره، فحرر ووضح، وبين وأفهم، وناظر وعارض، وانتقد وزيف، فلربما جعل في هذا الفصل مسائل عديدة، ينظر فيها إلى تحرير معنى الإسم تحريرا بالغا، لايغادر منه مبحثا ولا مسألة، حتى أوفى على المراد، وغدا منيعا على الانتقاد.

¶ الفصل الرابع: في التنزيل؛ وجعله في منزلتين؛ الأولى: للرب تعالى، والاخرى للعبد، فمايز بين المنزلتين، وأظهر من عجائب الأحكام، ما يجعل القارئ يحكم له فيها بالإجادة، فكان فصله هذا بالغا، جاريا في مضماره إلى النهاية.

ب- لغته وبيانه ونمط دراسته للمصطلحات:

فقد مشى على نمط خاص في تحريه عن المعنى الأوفق للفظ المبحوث، فيستقري المعاني المضمونة ويتقفرها، ثم يَرُدّ كل معنى إلى أصله، أو يجعل للمعاني الأخرى التي تنضبط لأصل آخر، فإن استحال الجمع كرّ على المعنى الأبعد وقرب الأفق، مع النظر في المناسبات.

- وقد جرى في دراسته للمصطلحات والألفاظ على معالم نكشفها لتُعلَمَ وهي: الاعتناء بأقوال أهل التحقيق.
- النظر في صحة الشاهد وسلامته من الوضع.
- تأييد اللغة والاشتقاق للاسم المراد بحثه.
- سلامة المعنى المستخلص من الاعتراض والانتقاد.
- ميله عن القول بالترادف واستحسانه لحمل كل لفظ على معنى خاص[4].

ج- ترتيب الأسماء ومناسبته:

اختار القاضي رحمه الله تعالى أن لا يحصر أسماء الله تعالى في العدد المروي في الحديث وذلك بأن يتتبع على سبيل الاستقراء والاستقصاء كل اسم أطلقه الشرع لله تعالى أو وقع الاجماع عليه، كما أكده قوله في الخاتمة:"قد جمعنا في هذا الكتاب من أقوال العلماء عيونا، (...) ولم يبق اسم ذكروه إلا ذكرناه، ولا وصف شرحوه إلا شرحناه حتى اجتمع منها مائتا اسم وسبعة وستون اسما، هي امهات باقيها، وشارحات معانيها، وكاشفات خفاياها، وفارجات زواياها".
فكان العدد الذي صرح به هو 267 اسما، وقسمها إلى خمسة أقسام:
القسم الأول: خصصه لاسم " الله" وحده.
القسم الثاني: أسماء التنزيه؛ وقد أدرج فيه كل الأسماء المنقولة الدالة على نفي النقص عن ذات الله عز وجل، وفيه جعل اسم" الموجود" ضمن أسماء أخر؛ كالثابت، والقائم، والشيء، والنفس، والعين.

ويلاحظ أنه لم يميز في هذه الأسماء بين الأصل والفرع، كما فعله في القسم الثالث في تفصيل أسماء الاثبات بعد ذلك، فقد سرد أسماء التنزيه سردا، فهل هذا يعني أنه أدرج كل الأسماء الدالة عل. الذات ضمن صفة الوجود أم أنه يدخل فيه كل أسماء التنزيه؟

القسم الثالث: أسماء الاثبات؛ وفيه أرجع جميع أسماء الله تعالى التي تثبت لله وصفا إلى باقي الصفات السبع وهي: العلم، والقدرة، والإرادة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، وجعل تحت كل وصف ما يندرج في معناه من أسماء الله الحسنى.
القسم الرابع: أسماء الأفعال؛ وهي أكثر من سبعين اسما حسب عدّنا لها.
القسم الخامس: أسماء الباري التي وجبت له تعالى بفعل غيره، وهي اثنا عشر اسما.
ومما يميز الأمد عن غيره في عرض الأسماء وترتيبها:
- البداءة بأسماء التنزيه:
والنكتة في البداية بهذه الأسماء: مافي كلمة التوحيد "لا إله الا الله" فبدئ فيها بالتنزيه قبل الاثبات، وعليه عوّل القاضي في التقديم.
والفرق بين أسماء الاثبات والتنزيه؛ أن كل اسم أفاد معنى قائما بالذات فهو اسم إثبات، وكل اسم عاد إلى نفي نقص أو آفة فإنه تنزيه.
وفي ترتيب الأسماء قفاها بصفات الإثبات، وهي قسمان: صفات الذات، وصفات أفعال.
ثم لما كانت القدرة من أول المدلولات بدأ بها، ثم العلم، ثم الحياة، ثم الإرادة، ثم الكلام، وجعل بعدها أسماء الأفعال، ثم ختم بالأسماء التي وجبت له بفعل غيره.
- كشفه عن علة تقديم الأسماء الراجعة إلى صفة واحدة على بعضها البعض:

ومن بديع ترتيب القاضي أنه لا يقدم اسما على آخر إلا لنكتة، فأحيانا يشير إليها، وفي أحيان أخرى لا يذكر ذلك، ومن أمثلتها في أسماء القدرة وتقديمه لاسم الله القادر على القدير، فما كان على وزن فاعل مقدم عنده على وزن فعيل، لبنية الاسم واشتقاقه، ثم بعدهما المقتدر، ثم القوي، وعلة تأخيره عن سابقيه لأن القدرة أوضح في المعنى والدلالة من القوة، وهكذا سلك في ترتيبه طرائق لايسلكها إلا من أوتي فهما وذوقا[5].

د- مصادره وموارده:

اعتمد ابو بكر ابن العربي في كتابه هذا على مجموعة من الكتب. جمع من خلالها مضامين كتابه الأمد. وسنذكر هنا على سبيل المثال. بعض هذه الكتب التي اتخذها ابن العربي كمصادر في كتابته. ومن أهم هذه الكتب نذكر:

 معاني القرآن للفراء (ت 207ه) وهو من مصادره اللغوية.
 تفسير ابن جرير الطبري( ت 310ه) وهو من مصادره في النقل عن بعض الصحابة.
 تفسير أسماء الله الحسنى لإبراهيم بن السري الزجاج ( ت 311 ه).
 المختزن للإمام أبي الحسن الأشعري (ت 324 ه).
 معجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس (ت 395ه).
 التمهيد وهداية المسترشدين للباقلاني (ت 403 ه).
 الأسماء للإمام ابن فورك ( ت 406ه).
 المقصد الأسنى للإمام أبي حامد الغزالي (ت 505 ه) [6].

خاتمة

وختاما لهذه الدراسة سنعرض أهم النتائج والخلاصات التي توصلنا إليها:

  • مساهمة ابن العربي من خلال كتابه " الأمد الأقصى" في شرح الصفات والأسماء وتقريبها للناس فأفرد لها هذا الكتاب.
  • وقد ظهر لنا جليا من خلال هذا العرض، مكانة القاضي أبي بكر ابن العربي العلمية، إذ شهد له العلماء بالنبوغ والتمكن في علوم شتى، و يدل على هذه المكانة مؤلفاته لاسيما كتابه الأمد.
  • كان ابن العربي خلال تنظيره للعقيدة الأشعرية، منتقدا ومعارضا أحيانا لكبار شيوخها، وعلى رأسهم مؤسس المذهب، الإمام أبي الحسن الأشعري.

الهوامش؛

[1] سلسلة مؤلفات الإمام أبي بكر ابن عربي، الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، ص 38،

[2] المصدر السابق، ص ص 42-43-44-45، بتصرف،

[3] نفس المصدر، ص 50-51،

[4] نفس المصدر، ص 42-49،

[5] نفس المصدر، ص 62-63-64،

[6] نفس المصدر، ص 47،

لائحة المصادر والمراجع

- إبراهيم التهامي، جهود علماء المغرب غي الدفاع عن عقيدة أهل السنة، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1426ه، 2005م.

- الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة، بيروت الجزء 20، الطبعة الأولى.

- سلسلة مؤلفات الإمام ابي بكر ابن العربي، الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحسنى، تحقيق التوراتي، خريج أحمد عروبي، الطبعة الأولى 1426ه - 2015م.

- أبي حامد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، اعتنى بع عبد الله محمود محمد عمر، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان.

- جمال الدين الشيال، أبو بكر الطرطوشي العالم الزاهد الثائر.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق