هل اعتماد النموذج التجريبي شرط لازم لعلمية علم الاجتماع؟
إنشاء فلسفي إجابة عن السؤال الوارد في الامتحان الوطني دورة يونيو 2025 / علوم إنسانية
فيما يلي نص المقال (نموذجية العلوم التجريبية / علمية علم الاجتماع)
تتشكل المعرفة بفضل الجهد الذي يبذله العالم كذات عارفة تتوجه نحو موضوع لاكتشاف أسراره وفهم تركيبته اعتمادا على توجيهات عقلية وأخرى واقعية. هكذا يتم بناء مجموعة من العلوم الحقة، والعلوم الإنسانية. وتشير العلوم الإنسانية للدراسة التي تهم موضوعات الفعل الإنساني أو ما يعرف الظواهر الإنسانية النفسية والتاريخية والسياسية والاجتماعية تحت مسميات مختلفة كعلم الاجتماع الذي يدرس الظواهر الاجتماعية ويسعى لبناء نموذج علمي له على غرار العلوم التجريبية. وهنا اختلف المختصين بهذا العلم بين من ير في النموذج التجريبي شرطا للعلمية، وبين داع إلى خلق نموذج خاص لا يأخذ بالعلوم التجريبية نموذجا.
لذا نتساءل بدورنا، ما المقصود بالنموذج التجريبي؟ وبالعلمية؟ وعلم الاجتماع؟ وهل فعلا يمثل النموذج التجريبي أي الاقتداء بالعلوم التجريبية شرطا لعلمية علم الاجتماع أم لعلم الاجتماع القدرة على تحقيق العلمية بعيدا عن النموذج التجريبي؟
ولماذا يمكن أن يشكل العلم التجريبي شرطا للعلمية في علم الاجتماع؟
يقدم السؤال أطروحة مفترضة تتناول مسألة نموذج العلمية في علم الاجتماع، وتعتبر النموذج التجريبي شرطا لعلمية علم الاجتماع، بمعنى أن على علم الاجتماع أن يتبع نفس المراحل التي قطعتها العلوم التجريبية، وأن تتخذ من منهجها أساساً في دراسة موضوعها وهو الظواهر الاجتماعية، بحيث تعامل معها وجوبا كما تتعام تلك العلوم مع موضوعاتها أشياء لا صلة لها بذات الباحث أي بموضوعية ودون أدنى تأثير منه أو تأثر. وعلى هذا الأساس يمكن لعلم الاجتماع بلوغ العلمية في دراسة الظواهر الاجتماعية وتقديم معرفة موضوعية دقيقة عنها. ويمكن الحديث عن عكس هذا التوجه وذلك بحسب ما تقتضيه صيغة السؤال (هل). ويقصد بالنموذج التجريبي العلوم التجريبية عامة والتي تقوم على منهج استقرائي اختباري في دراسة الظواهر الطبيعية كظواهر خارجية منعزلة تخضع لشروط يمكن بفضل العلم إعادة صنعها ودراستها بالتالي التجريب عليها للوصول أخيرا إلى معرفة موضوعية بخصوصها. أما العلمية فتشير إلى الدقة والموضوعية في التعامل مع الموضوع وفي النتائج المحققة أو المنتظرة. ويقصد بعلم الاجتماع كما أسلفنا في التقديم أعلاه العلم الذي يدرس ظواهر المجتمع ذات البعد الاجتماعي أو المشتركة بين أفراد الجماعة كالعنف، البطالة، الفقر..
إذن فعلمية علم الاجتماع شرطها الوحيد هو النموذج التجريبي، والذي يتبناه عدد من علماء الاجتماع من بينهم على سبيل المثال أوغست كونت، سيمون، دوركايم.. الذين يؤمنون بأن تطبيق مناهج العلوم الطبيعية، هو السبيل لفهم الظواهر الاجتماعيةوبالتالي بلوغ العلمية، واعتبار هذه الظواهر مثلها مثل الظواهر الطبيعية، قابلة للتصنيف والقياس.
من خلال ما تقدم نستنتج أن على علم الاجتماع بالضرورة إذا أراد تحقيق العلمية أن يسير على نجه العلوم التجريبية. لكن إلى أي حد يمكن أن المماثلة بين الظواهر الاجتماعية والظواهر الطبيعية بالرغم من التباين القائم بينها من حيث مصدر وطبيعة كل منها؟ أليس من بالأحرى بدل اتباع النموذج التجريبي العمل على خلق نموذج خاص للعلمية يناسب موضوع علم الاجتماع؟
إن التساؤلات السابقة تدفعنا إلى تبيان قيمة وحدود الأطروحة المفترضة التي عبر عنها مضمون السؤل موضوع التحليل والمناقشة. إذ يمكن القول إن لتلك الأطروحة قيمة من الناحية العلمية إذ تبرز لنا أهمية العلم التجريبي وبالتالي أهمية علم الاجتماع في دراسة الظواهر الاجتماعية اعتمادا على أسس منهجية دقيقة على غرار العلم الطبيعي الذي يتخذه نموذجا للعلمية في طريقة التعامل مع موضوعاته ونتائجه المحققة. لذلك من الضرورة على علم الاجتماع القطع مع المعرفة التخمينية التأملية والأخذ بأسس العلم التجريبي. وهذا ما يدعو إليه "سيمون" أي إلى القطيعة مع المعرفة التأملية التخمينية لإستبدالها بالمعرفة الوضعية، لأن هذه المعرفة ( الوضعية ) هي الكفيلة بالإسراع والتقدم على المستويين الإجتماعي والفكري. إن هذا الإتجاه يسعى إلى دراسة كل المواضيع الإجتماعية في حياد ايكسيولوجي تام دون الأخذ بعين الإعتبار أراء وتصورات الأفراد، وعليه فإن هذا التيار يرجع كل الظواهر والأفعال الإنسانية إلى محددات خارجية بالنسبة للأفراد. في نفس الاتجاه يؤكد "دور كايم" أن الوقائع الاجتماعية شبيهة الوقائع الطبيعية، ينبغي دراستها بالتالي كما تدرس الظواهر الطبيعية.
لكن هذا التوجه اعترض عليه العديد من العلماء وتلمباحثين في مجال الظواهر الاجتماعية وهو ما يبرز حدود الأطروحة المفترضة والمواقف الداعمة لها وذلك من الناحية العليمية والواقعية كذلك، ذلك أن من الواضح وجود فوراق مهمة بين علم الاجتماع والعلوم التجريبية. أبرز هذه الفروق؛ الاختلاف على مستوى النتائج والتنبؤات المرتبطة بالموضوع، وثانيا الاختلاف في مجال البحث وسط ومحيط البحث، فهو يؤثر بالنسبة لعلم الاجتماع، والعكس بالنسبة لعلم الطبيعية. وهذا ما حاول "بياجي" إبرازه في قوله : " إن موضوع علم الإجتماع هو النحن الجماعية ،التي يصعب كثيرا إدراكها بالموضوعية وسيما أن شخص الإجتماع يعتبر في عداد ما إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة". ما يحتم على علم الاجتماع البحث عن نموذج خاص للعلمية يتناسب وموضوعه. في السياق نفسه يرى "فيبر" أنه ينبغي اعتبار العلوم الإنسانية علوما مستقلة وناضجة، على خلاف مايعتقده انصار الإتجاه الوضعي، الذين يتحدثون عن تأسيس هذه العلوم وكأنها لم تكن موجودة منذ القدم، ولذلك تدرك دون أن يكون الأمر بحاجة إلى برهان أن العلوم الإنسانية لا تدرس موضوعا خارجيا بالنسبة للإنسان، ومن تم فالإنسان هو خالق الأفعال والأعمال الإنسانية على غرار باقي إنتاجات الإنسان الأخرى.
صفوة القول إن لكل علم مطامح كبرى، وكذلك علم الاجتماع، الذي من أكبر مطامحه منذ نشأته الوصول إلى الدقة العلمية، أن يصبح علما بالمعنى الحقيقي لهذا المفهوم "علم". ومع ذلك فإن هذا العلم لم يحقق بعد مطمحه العلمي، وذلك بالنظر إلى خصوصيته والتي تمثل صعوبة خاصة تواجهه ليصبح كالعلوم الأخرى.