الأشكلة ودورها في بناء الدرس الفلسفي.
تمهيد:
ارتبط مفهوم الأشكلة بالمستجدات التي عرفها حقل التربية بصفة عامة وديدكتيك
الفلسفة بصفة خاصة؛ بحيث لم يعد رهان العملية التعليمية هو تلقين وشحن المتعلم
بمجموعة من المعارف، بل أصبح رهانها هو تنمية القدرات الذاتية للمتعلم والرقي
بإمكاناته الفكرية والوجدانية والقيمية وإمداده بآليات الخطاب من أجل استثمارها في
وضعيات حياتية. برز مفهوم الأشكلة، في هذا السياق، كبعد بيداغوجي في الدرس الفلسفي
وكقدرة يجب أن يحققها هذا الدرس لدى المتعلم. ولم يفرض هذا المفهوم ذاته بشكل
اعتباطي ارتجالي، بل ارتبط ظهوره بالتحولات التي عرفها حقل التربية من جهة وبخصوصية الفلسفة التساؤلية والآليات التي تعتمد عليها من جهة أخرى، الشيء الذي
يجعل مفهوم الأشكلة متسما بطابع التركيب.
إن مرد هذا التركيب هو كون مفهوم الأشكلة، كسيرورة من سيرورات الدرس الفلسفي، يأخذ بعين الاعتبار قدرات المتعلم وخصوصياته دون تضحية، في الوقت ذاته، بخصوصية الفلسفة وآليات اشتغالها؛ "لذلك كان من الضروري أن يقوم هذا الدرس على الحوار، بحيث يكون المدرس كوسيط بين آراء الفلاسفة وأطروحاتهم وآراء التلاميذ وتعقيباتهم، لأن الأمر لا يتعلق بتعليم مضامين فلسفية مكتملة، ولكن بممارسة تفكير ذاتي، يحفز المتعلم على إعادة النظر في آرائه، وذلك بتفكيك تمثلاته وإعادة بنائها بطريقة شخصية".(1)
وإذا كان من مهام المدرس أن يكون وسيطا بين آراء الفلاسفة وأطروحاتهم وآراء المتعلمين، فإن ذلك يفرض على المدرس، أثناء الأشكلة، أن يكون،في الوقت نفسه، وسيطا بين الإشكالات التي أثارت اهتمام الفلاسفة وبين استعدادات المتعلمين وقدراتهم على التساؤل؛ أي تحيين المشكلات والإشكالات الفلسفية وإحيائها في سياقات قريبة من المتعلم، لأن ذلك من شأنه أن يدفعه إلى طرح السؤال الفلسفي، فيغدو بذلك ممارسا للفعل الفلسفي، لذلك فعندما نكون بصدد الأشكلة، فإن "الأمر يتعلق كما تشير إلى ذلك جاكلين روس Russ.J بتشكيل لحقل استفهامي توحده مشكلة محددة. فأن نستشكل، لا يعني فقط أن نتساءل، بل أن نرتقي انطلاقا من مجموعة من الأسئلة المنظمة لنبلغ عمق المشكلة".(2) الشيء الذي يفيد أن المنزلة البيداغوجية والديداكتيكية للأشكلة ملازمة لحقل الاستفهام؛ فلا وجود لتفكير فلسفي دون وجود قول استفهامي، وكل استفهام مشروط بوجود مشكل أو مشكلة تثير الاهتمام وتستنطق التفكير.
في معنى الأشكلة والمصطلحات المحايثة لها:
يهتم الدرس الفلسفي عموما أثناء الانتقال من لحظة المفهمة بإبراز التقابلات والمفارقات والاحراجات التي
يحدثها المفهوم الفلسفي في دلالاته، وصياغتها صياغة إشكالية عبر تساؤلات إشكالية؛
وبما أن السؤال الفلسفي هو سؤال إشكالي، فإن تلك التساؤلات يجب أن تكون عبارة عن
إشكالات تحمل التقابلات والإحراجات الثاوية وراء المفهوم أو الموضوع المطروح.
تسمى هذه العملية في أدبيات ديدكتيك الفلسفة بالأشكلة. كما يكون المتعلم(ة)
مطالبا،هو الآخر، أثناء الكتابة الإنشائية الفلسفية، بإبراز إشكالية الموضوع
وصياغتها على شكل إشكالات تحمل التقابلات وتعبر عن التوتر والإحراج في المقدمة أي
التأطير الإشكالي للموضوع.
تعد الأشكلة، من هذا المنطلق، أهم أركان التفلسف وتعلم الفلسفة على اعتبار
أن الأشكلة لحظة أساسية في سيرورة الدرس الفلسفي من جهة، ومطلبا منهجيا في الكتابة
الإنشائية من جهة أخرى. وعليه، وجب على كل مدرس للفلسفة أن يولي أهمية كبرى
للأشكلة وأن يوضح للمتعلمين المقصود بالإشكالية والإشكال وكيفية استنباطها وصياغتها
بشكل سليم. فما معنى الأشكلة؟ وأين تكمن أهميتها في بناء الدرس الفلسفي وفي الكتابة الإنشائية
الفلسفية؟
بما أن المنزلة البيداغوجية والديدكتيكية للأشكلة ملازمة لحقل الاستفهام، ولما كان الاستفهام مشروطا بوجود مشكل أو مشكلة يرجى حلها، فإن ذلك يقودنا إلى تفكيك مفهوم الأشكلة وذلك بالوقوف عند المصطلحات المرتبطة به والمحايثة له. ولعل من أهمها مصطلح المشكل والمشكلة والإشكال والإشكالية. فما المقصود بهاته المصطلحات؟
أولا:المصطلحات المحايثة للأشكلة وأبعادها الفلسفية:
1-المشكل:
ورد في المعجم الفلسفي أن "المشكل هو ما لا ينال المراد منه إلا بتأمل بعد الطلب"؛(3) أي أن
هناك علاقة، بشكل عام، بين التأمل و ضرورة حل مشكل معين. وإذن فهو "قضية
غامضة أو صعبة الحل، تحتاج إلى تفكير من أجل حلها".(4) وإذا ما ربطنا ذلك بالتفكير الفلسفي نجد أن
الفيلسوف، في البدء، لا يمكنه أن يتفلسف دون وجود مشكل يثير دهشته أو قلقه ويدفعه
إلى التساؤل ومن ثم التفلسف. "هكذا فنحن لا نبتكر مشكلا فلسفيا، بل نكتشفه،
نصادفه"،(5) فهو في هذه اللحظة، يكون مرتبطا بتجربة الفيلسوف ومعطيات عصره مثلا حرب أو ظاهرة
ما أو تصور جديد أو نظرية ما... "إن ما يجعلنا نواجه المشكل هو اعتبار أن ما
نعتقد معرفته لم يعد كافيا (...) فالمشكل يبزغ، إذن، فوق أرض تملؤها اليقينيات،
إنه يظهر لكي يزعزعها، قد يتعلق الأمر بآراء وتمثلات، ولكن أيضا بأطروحات الفلاسفة
السابقين".(6) لكن عندما يعجز الفكر على حل ذلك المشكل بشكل نهائي، فإنه يتحول إلى مشكلة. فما
معنى المشكلة؟
2- المشكلة:
يعرفها المعجم الفلسفي بأنها "المعضلة النظرية أو العملية التي لا
يوصل فيها إلى حل يقيني. وهي مرادفة للمسألة التي يطلب حلها بإحدى الطرق العقلية
أو العملية، كأن نقول: المشكلات الاقتصادية أو المسائل الرياضية".(7) وإذا
ربطنا هذا التعريف بالفلسفة نجد أن المشكلة الفلسفية هي قضية لم تجد حلا يقينيا
وحاسما؛ على اعتبار أنها تحمل في جوفها توترات وتناقضات وإحراجات، لا تسمح للفيلسوف بأن
يتوصل إلى حل نهائي بخصوصها؛ وعدم الحسم فيها هو ما يجعلها قضية مطروحة على
الفلاسفة باستمرار، كمشكلة الحرية مثلا؛ إذ أن هذه المشكلة طرحت منذ قرون عديدة
ولازالت تطرح إلى الآن في سياقات مختلفة. غير أن التعبير عنها وما تثيره من
تناقضات وإحراجات، يجعلها تتحول إلى إشكال فلسفي. فما هو الإشكال؟
3-الإشكال:
ورد في المعجم الفلسفي أن الإشكال هو "الالتباس ويطلق على ما هو مشتبه
ويقرر فيه دون دليل كاف، ومن ثم يبقى موضع
نظر".(8) الشيء
الذي يفيد أن الإشكال هو التجسيد الفعلي للمشكلة؛ فإذا كانت هذه الأخيرة لا تسمح
بالتوصل إلى حل يقيني، فإن الإشكال يبرز وجه الإحراج الثاوي في جوفها، بحيث إنه
يعبر بكيفية دقيقة عن المفارقات والتقابلات التي يطرحها الموضوع المطروح.
إن هذه التقابلات والمفارقات هي التي لا تسمح بإقرار بوجود دليل كاف أو جواب تام بخصوص الموضوع. وعليه، فالإشكال عند الفلاسفة "صفة لقضية لا يظهر فيها وجه الحق، ويمكنها أن تكون صادقة، إلا أنه لا يقطع بصدقها".(9) والسر في ذلك هو أن الإشكال ليس أحادي الاتجاه، أي لا ينصب على بعد واحد من الموضوع، بل إنه متعدد الإتجاهات والأبعاد، ولذلك نجده عند (كانط) "مرادفا للإمكان، وهو مقولة من مقولات الجهة، ويقابله الوجود، والضرورة".(10) ففي الوقت الذي نجد الفيلسوف يقارب مثلا إشكال الحرية من الزاوية النفسية نجد آخرون يقاربونه من زوايا أخرى قد تكون اجتماعية أو بنيوية أو اقتصادية... وبالتالي صعوبة الحسم في الموضوع؛ فالإشكال هو "ما يمنعنا من من إيجاد حل بسيط ونهائي لمشكلة فلسفية ما، ويكون هذا العائق في الغالب عائدا إما إلى غموض في طرح المشكل أو وجود تناقض غير قابل للتجاوز أو تعارض بين عدة حلول مقترحة".(11)
إن هذه الطبيعة المفارقة التي ينطوي عليها الإشكال الفلسفي هي التي تفسر
تعدد التصورات الفلسفية حوله ، لأن مداره ليس هو الضرورة كما هو الشأن بالنسبة
للعلوم البرهانية، بل هو الممكن والإمكان، وعندما نكون في هذا المدار، فإننا نكون
أمام التعددية والاختلاف وفي ظل الاختلاف يكون الحجاج مطلبا أساسيا لا غنى عنه.
ولعل هذا ما يجعل الفلسفة توصف بأنها خطاب إشكالي وحجاجي واختلافي بامتياز في
مقابل البرهان الذي لا يفترض وجود اختلاف، وإنما يفترض الضرورة المنطقية التي لا
تسمح بتعدد الاستدلالات حول نفس القضية.
بما أن الإشكال هو ما يكشف عن مظاهر الدهشة والقلق والتوتر الثاوي في
المشكلة الفلسفية، فإن هذا الكشف لا يتم إلا عبر الصياغة الاستفهامية، ولما كان
الإشكال متعدد الاتجاهات، فإن هذه الصياغة الاستفهامية بدورها تفترض وجود هذا
التعدد في الجهة. ولذلك "يصاغ الإشكال على شكل سؤال يتضمن أو يصرح بالغموض أو
التناقض أو التعارض الذي يحيل إليه، لذا يرد في صيغة: هل...أم...؟ كيف يمكن...في
حين...؟ أليس...مادام أن...؟ إلخ".(12) غير أن
الإشكال الواحد يحمل في طياته مجموعة من التساؤلات الممكنة والكشف عنها أو التصريح
بها يضعنا أمام مصطلح الإشكالية.
4-الإشكالية:
تعد الإشكالية امتدادا للإشكال؛ غير أن الفرق بينهما يتمثل في أن الإشكالية
تعكس بحق عمق الإشكال وتفكك وحدته ليصبح عبارة عن مجموعة من التساؤلات الاستفهامية
التقابلية، أي وظيفتها إبراز وجه الإحراج والتوتر بكيفية أكثر دقة. فمثلا إذا
أخدنا الإشكال المرتبط بمشكلة الأنا
والأخر: هل معرفة الغير ممكنة أم مستحيلة؟ وأردنا أن نبرز التساؤلات المتضمنة فيه،
أي تحويله إلى إشكالية، فيمكن أن نقول: هل معرفة الغير ممكنة أم مستحيلة؟ وإذا
افترضنا أنها ممكنة، فكيف يمكن معرفته؟ هل يمكن معرفته كموضوع أم كذات؟ وإذا كانت
معرفة الغير ممكنة بوصفه ذاتا، فهل تقوم هذه المعرفة على الاستدلال بالمماثلة أم
على الحدس؟
ومنه، فإن الإشكالية "هي مجموعة من الأسئلة المنتظمة أو المترابطة فيما بينها المتفرعة عن الإشكال الفلسفي"؛(13) إذ أنها هي التي تعكس مخاض المتفلسف وهو بصدد إشكال ما، كما توجه نشاطه الفلسفي بشكل متدرج ومتسلسل، نحو عمق الإشكال المطروح، بحيث إن تعدد الأسئلة يؤدي إلى تعدد الإجابات والأفكار ومن ثم تعدد التصورات والمواقف الفلسفية.
ثانيا: في معنى الأشكلة:
يتسم مفهوم "الأشكلة" بالتركيب والتعقيد؛ إذ يحمل في طياته عدة
أبعاد منها ما يتعلق بعناصر وآليات التفلسف، كالمشكل والمشكلة ثم الإشكال
والإشكالية، وأخرى تتعلق بالمتعلم من حيث تمثلاته وقدراته الذاتية؛ على أساس أن
الأشكلة سيرورة من سيرورات الدرس الفلسفي من جهة، و قدرة مستهدفة يجب تنميتها لدى
المتعلم من خلال النشاط أو الدرس الفلسفي من جهة ثانية. لكن ما معنى الاشكلة؟
تعتبر الأشكلة من بين الأهداف النواتية، حسب ميشيل طوزي، التي يجب أن
يحققها الدرس الفلسفي لدى المتعلم. ويرى بأنها تقتضي ثلاث قدرات: "أولا: القدرة
على المساءلة، وتعني جعل تأكيد ما (بديهية أو تعريف) أمرا إشكاليا ومشكوكا فيه؛ أي
وضعه موضع سؤال، أو على شكل سؤال. ثانيا: اكتشاف مشكلة فلسفية انطلاقا من مدلول، أو
في علاقة بين بعض المفاهيم، أو خلف سؤال. ثالثا: صياغة تلك المشكلة بشكل تناوبي، أي
بشكل يمكن من الحصول على إجابات (الحلول الممكنة تبعا للمفترضات التي ينطلق منها،
إجابات على أسئلة أخرى ترتبط بالمسألة الأولى والحجج التي نستدل بها)".(14) الأمر
الذي يفيد بأن الأشكلة هي القدرة على كشف واكتشاف التوتر والتناقض والمفارقات
الممكنة الواردة في المشكلة أو المفهوم أو في الآراء السائدة، بمعنى كشف الإشكال
المتضمن في ذلك ثم صياغتها بشكل تناوبي؛ أي صياغة الإشكالية.
وإذا كانت الإشكالية تتحدد بوصفها مجموعة من الأسئلة المتفرعة عن الإشكال، فإن كل جزء منها يفترض جوابا ما. فالأشكلة، إن شئنا، هي القدرة على تحريك ما هو ثابت في السائد ونظامه وزعزعته ليغدو أمرا مشكوكا فيه، وبالتالي فهي"جوهر العمل الفلسفي، وتتمثل في القدرة على تحويل سؤال أو قضية أو حتى لفظ إلى إشكال أي الكشف عن التوتر أو المفارقة أو الغموض أو التناقض الذي ينطوي عليه".(15)
وبما أن الفلسفة لا يمكن أن تقوم بدون مفاهيم، فإن الدرس الفلسفي عادة ما
ينطلق من المفهمة، أي الوقوف عند دلالات المفاهيم الأساسية للدرس. ومن خصائص
ووظائف المفهوم هو أنه يتميز بالعمومية والكلية والتجريد، فهو يركز على ما هو
مشترك بين الموضوعات دون الاهتمام بما هو خاص وجزئي، لذلك فوظيفته الإجرائية هي تجميع
للمتعدد والمختلف في وحدة؛ أي أنه يحقق الوحدة وراء تعدد الموضوعات. وبالتالي، فكل
مفهوم يحمل في ثناياه غنى معرفيا يتمثل في التفاصيل والجزئيات التي يخفيها، على
أساس أنه يظهر فقط ما هو مشترك.
لكن تصوراتنا عن المفهوم الواحد تختلف باختلاف تمثلاتنا وخلفياتنا الثقافية
وتجاربنا الشخصية، لذلك غالبا ما تكون تصورات المتعلمين عن المفهوم جزئية أو
سطحية. الشيء الذي يفرض عند لحظة المفهمة ضرورة الأخذ بعين الاعتبار تمثلاتهم عن
المفهوم؛ على أساس أنه حد لا ينفصل عن مكونه الواقعي والتاريخي، وهذه العلاقات
المعرفية والواقعية لا يتم إظهارها إلى بفعل الأشكلة. فأن نؤشكل مفهوما ما،معناه
أن نخرج به من دائرة الوثوقية والبداهة والتبسيط المتسرع إلى دائرة النقد
والمساءلة؛ أي استنطاقه حتى يكشف عن مضامينه ومفارقاته الموجودة في جوفه ثم
صياغتها على شكل إشكالية، حتى تصبح تلك المفارقات واضحة لدى المتعلم.
وعليه، وجب أن تبنى إشكاليات الدرس بمعية المتعلمين وليس تقديمها لهم بشكل
جاهز. فكما أن المفهمة تستوجب الاشتغال على تمثلات التلاميذ بخصوص مفاهيم الدرس،
فإن أشكلة مفهوم ما يجب أن تتم بمعيتهم ومساعدتهم على ذلك، على اعتبار أن هذه
العملية الديدكتيكية هي التي ستحدد وتؤطر مسار الدرس، وعدم إشراك المتعلم في بناء
تلك الإشكاليات معناه عدم إشراكه في سيرورة الدرس الذي سيبدو له مجرد تضارب للآراء
أو ترفا فكريا لا معنى له من جهة، ومن جهة أخرى ينبغي استحضار أنه من أهداف الدرس
الفلسفي جعل المتعلم قادرا على ممارسة النقد وطرح السؤال المنظم، وأشكلة
القضايا،هذا مع العلم أنه سيكون مطالبا في الامتحان بأن يحدد إشكالية نص أو قولة
أو سؤال ويعبر عنها بشكل سليم.
وإذا ربطنا مفهوم الأشكلة بالنص الفلسفي، فيمكن القول إن أشكلة نص ما، هي: "القراءة
التي من خلالها يبرز المشكل الذي يعالجه النص، ورهانات هذا المشكل، كما تعني أيضا
أن نكشف من خلال قراءتنا عن الإشكالية الخاصة كما يعرضها النص بانتظام".(16) ولما كان كل نص
فلسفي هو جواب عن مشكل معين أو إشكالية ما، إما بشكل صريح أو ضمني، فإن أشكلة
النص، هي القدرة على كشف إشكاله من خلال تقابلاته المفاهيمية. على أساس أن القدرة
على فهم النص باعتباره جوابا ممكنا يسمح لنا بإدراك إشكاله ورهاناته، والإمساك
بإشكالية هو في حد ذاته إمساك بموضوعه ومنطوقه، لأن كل فكرة فيه تشكل جوابا عن سؤال
جزئي ضمن إشكاليته، فالاشكلة، في هذا السياق، هي حركة تكشف عن المشكل في نص ما
ورهانه، وإعادة بناء إشكاليته المخصوصة التي ينظمها صاحبه والكشف عن تصوره الخاص
ووضع رهانه موضع مساءلة، لذلك تبدو الأشكلة جهدا في مساءلة المضامين الخفية
واستنطاقها ودفعها إلى دائرة البحث.
ويمكن أن نقول من خلال
ما سبق إن الأشكلة هي القدرة على التساؤل فلسفياً حول المفاهيم وإدراك ما تنطوي
عليه من مفارقات وتناقضات وبلورتها في
صيغة تساؤلية تعكس وجه المفارقة؛ فالأشكلة، في هذا الإطار تبدو مجموعة من الإجراءات
الفكرية التي يجب تنميتها لدى المتعلم بهدف أن يكون قادرا على مساءلة الآراء
والأحكام المسبقة المحصلة من الوسط العائلي والاجتماعي ووضع تلك الآراء محط نقاش.
في هذا الصدد يميز ميشل طوزي بين ثلاثة نماذج من الأشكلة وهي:(17)
1-نموذج التبرير الإشكالي وهو: النموذج الذي يجعل من الإثبات والبداهة
والتمثل والتعريف، أشياء قابلة للشك والطعن، أي يضعها موضع تساؤل.
2-نموذج تفكيك المشكل هو: نموذج تصبح فيه الاشكلة مساءلة السؤال ذاته،
والكشف في ما وراء هذا السؤال عن مشكل أو عدة مشاكل فلسفية؛ على أساس أن الغرض من
السؤال ليس تقديم إجابة، بل في القدرة على إبراز ما يخفيه السؤال وذلك عبر أشكلته.
تتحدد الأشكلة،بهذا المعنى، في مراميها المعرفية، بوصفها أفقا للكشف والإظهار، لأن
السؤال في إحدى جوانبه يكون حاجبا أو أداة للإخفاء، وهذا ما يجعل من الأشكلة إعادة
نظر نقدية في السؤال ذاته بحثا عن منافذ ممكنة لسبر أعماق الموضوع؛ لهذا فهي نظام
محكم لأسئلة فلسفية تقوم ببناء منظم للمشكل وتفتح للفكر تعدد الإجابات الممكنة.
3- نموذج صياغة الإشكالية وهو: نموذج تطرح فيه المشكلة بصيغة تعارضية تبرز الخاصية الحوارية لفكر لا يبحث عن حلول نهائية، بل عن أجوبة ممكنة. حيث إن هذا النموذج يرسم إطار المساءلة والأنشطة اللاحقة والتصورات الممكنة، من خلال الصيغة التقابلية، بحيث كل جزء من الإشكالية يفترض جوابا ما.
أهمية الأشكلة في الدرس الفلسفي والكتابة الإنشائية:
تعكس تلك النماذج الثلاثة، التي عرضنا لها سابقا، أهمية الأشكلة سواء
بالنسبة للمدرس أو المتعلم، لذلك كان من الضروري على كل مدرس لمادة الفلسفة
أن يولي أهمية كبرى للأشكلة كوضعية ديدكتيكية
أساسية في بناء الدرس الفلسفي. لذا سيتجه عملنا فيما يلي إلى الوقوف على مظاهر
أهمية الأشكلة في هذا الدرس وفي الكتابة الانشائية الفلسفية.
أولا: أهمية الأشكلة في الدرس الفلسفي:
تتجلى أهمية الأشكلة، كما لاحظنا آنفا، في كونها:
Ø تحافظ على خصوصية التفكير الفلسفي من حيث هو خطاب تساؤلي ونقدي، فلا اشتغال فلسفي دون قول تساؤلي يشك في المألوف والسائد، كما تكشف عن اللامفكر فيه والذي يبدو هامشيا في الثقافة السائدة. وبذلك فهي تستهدف خلخلة ومساءلة تمثلات المتعلم التي تجعله يعتاد الركون إلى البداهة والجواب الأحادي، بحيث تدفعه إلى إعادة بناء تلك التمثلات باستمرار وبالتالي يقطع مع اللغة الاعتيادية والأجوبة المتسرعة.(18)
Ø ترسم مسار
البحث والأنشطة اللاحقة حتى لا ينساق إلى قضايا خارج الموضوع،(19) فالأشكلة بهذا المعنى، تعد بمثابة تعاقد ديداكتيكي بين المتعلم والمدرس والمادة
المعرفية، بحيث تكفل شد انتباه المتعلم وتحول دون شعوره بالملل. بحيث يصبح مشاركا في الدرس الفلسفي،
وتحفزه على البحث المستمر في محاولة للكشف عن الطرف الراجح بين حدي المفارقة.
Ø تمكننا من
تحيين الإشكالات الفلسفية، في سياقات راهنية قريبة من حياة المتعلم ومعطيات عصره
وهذا هو ما يضمن استمرارية التصورات الفلسفية ديداكتيكيا ودخولها في حوار مستمر
رغم الفارق التاريخي بين الفلاسفة، و يجعل المتعلم يدرك أن الفلسفة ليست مجرد كلام
فارغ، بل أن هناك منطق يحكمها.
Ø تفسر تعدد التصورات والمواقف
الفلسفية، مما يجعل المتعلم يدرك دواعي هذا التعدد ومن ثم يدرك أن هاته التصورات
ليست مجرد تضارب للآراء، بل تعبر عن تعاون الفلاسفة من أجل بلوغ الحقيقة.
Ø تكشف عن
البنية المعرفية للنص الفلسفي ورهاناته، بشكل يجعل المتعلم ينخرط في حوار الفلاسفة
ومناقشاتهم من خلال نصوصهم، مما يفيد أن الأشكلة اعتراف بوضعية المفارقة بين وجهات
نظر مختلفة كل واحدة تحظى بقسط من الحقيقة.
Ø تحيل إلى
أجوبة ممكنة حسب سياقات مختلفة. وهذا يؤدي بالمتعلم إلى الاعتراف بالتعددية
والاختلاف ومن ثم إمكانية أن يراجع آرائه المسبقة و النظر إلى الأمور، سواء الحياتية والمعرفية، من زوايا مختلفة.
Ø تمكن المتعلم من اكتساب تقنيات السؤال وإبراز أين يكمن المشكل، واستخراج الإشكاليات الفلسفية التي تتضمنها المفاهيم الفلسفية من خلال الكشف عن المفارقات والتقابلات، وصياغتها في أسئلة فلسفية منظمة.(20) وهذا ينمي قدرة المتعلم على ممارسة التفكير النقدي المنظم واستثماره في الكتابة الإنشائية الفلسفية.
ثانيا: أهمية الأشكلة في الكتابة الإنشائية:
من المعروف أن
من أهم الكفايات المستهدفة في الدرس الفلسفي أن يتمكن المتعلم من الكتابة
الإنشائية الفلسفية المنظمة وفق خطوات منهجية صارمة. لذلك فالإنشاء الفلسفي هو
عبارة عن" كتابة مقالية يتم من خلالها إنشاء موضوع أي بناؤه وترتيب أجزائه
بطريقة مبتكرة. ولكي تكتسب هذه الكتابة الإنشائية صفة الفلسفة، لا بد أن تكون عملا
شخصيا، عقلانيا، نقديا وتوضيحيا؛ ولكي تكون مدرسية، عليها أن تتكون من مقدمة وعرض
وخاتمة وتلتزم بمادة العمل الإنشائي المطروحة والتي قد تكون نصا أو سؤالا أو
قولة".(21) وعليه، فالمتعلم مطالب بأن يكتب، أثناء الاختبارات، موضوعا متكاملا ينطلق من المقدمة وطرح
الإشكال، مرورا بالعرض بما يتضمن من مراحل جزئية تجمع بين التحليل والمناقشة،
وصولا إلى الخاتمة التي تجمع شتات الموضوع، حيث تعتبر بمثابة حصيلة.
وتتحدد الاشكالية ضمن هذه الكفاية بوصفها
العنصر الجوهري الذي ينبغي أن تنطوي عليه المقدمة وتقود إليه بوصفها صياغة إشكالية
لموضوع محدد. وبما أن المقدمة هي تمهيد للأنشطة اللاحقة، فإنها لحظة حاسمة، لان
تلك التساؤلات هي التي سيجيب عنها العرض، وبالتالي عدم الإمساك بإشكالية الموضوع
من شأنه أن يؤدي بالمتعلم إلى التيه في قضايا لا تمت إلى الموضوع بصلة.
من هنا نرى مدى الأهمية التي تحظى بها عملية الأشكلة؛ إذ أنها
ترسم مسارا لتحليل ومناقشة الموضوع المطروح، فهي إن شئنا بمثابة بوصلة توجه عمل
المتعلم في الأنشطة اللاحقة حيث تمكنه من عدم الخروج عن الموضوع ومن ضياع تفكيره
في الرواية العائمة؛(22) غير أن ذلك مشروط بمدى قدرة المتعلم على استخراج إشكالية الموضوع وصياغتها بشكل
واضح من خلال
الصيغة التقابلية، بحيث أن كل تساؤل من الإشكالية يفترض جوابا ما، بدءا بالجواب
المتضمن في الموضوع(النص/السؤال/القولة). على أساس أن تلك التساؤلات سيجيب عنها
العرض في مطلبي التحليل والمناقشة، ولذلك فالصياغة الجيدة للإشكالية هي تلك التي
تبرز الخاصية الحوارية لفكر لا يبحث عن حلول نهائية، بل عن أجوبة ممكنة.
كما تعمل تلك التساؤلات الإشكالية على شد انتباه
المتلقي وتشويقه في قراءة ما هو لاحق، لكنها في الوقت ذاته تعد تعاقدا بين
المبدع(المتعلم) والمتلقي(المصحح)؛ على أساس أن "المقدمة تضع خطة للنقاش
وتؤشكله وتقترح مسارا معينا، فيما يجب أن تعبر الأنشطة اللاحقة والخاتمة على أن
ذلك المسار قد تم الالتزام به منذ المقدمة".(23) الأمر الذي يفيد بأن طرح الإشكالية في المقدمة ليس الغاية منه طرح مجموعة من
التساؤلات من أجل الصيغة التساؤلية فقط، بل هو طرح للأسئلة الضرورية والمناسبة
الثاوية في الموضوع،و التي ستكون الكتابة اللاحقة إجابة عنها ولذلك تقول جاكلين
روس: "إن البناء الإشكالي يتم عبر سلسلة من الأسئلة المنظمة والمترابطة
انطلاقا من القضية المطروحة، على أساس أن صياغتها تكون مرنة وسلسة وليست بناء
مصطنعا وتعسفيا لا تنسجم مع جوهر الموضوع المطروح".(24) ولذلك فالأشكلة الجيدة للموضوع هي تلك التي تضع تساؤلات تستهدف التحليل وتوجهه
وأخرى تستهدف المناقشة وتوجهها؛ ومنه فإن المقدمة وإن كانت هي أول ما يقرأ في ورقة
التحرير، فإنها في ذهن المتعلم هي أخر ما يكتب؛ من هنا تبدو أن كتابة المقدمة،
بكيفية جيدة، ليس أمرا هينا، بل هو جهد
ومخاض ذهني. ومرد ذلك إلى مدى قدرة المتعلم على الإستشكال.
من هذا المنطلق، كان على كل مدرس، في إطار
العملية التعليمية التعلمية، العمل على مساعدة المتعلم على إتقان مهارات و تقنيات
الأشكلة، وكيفية استثمار ذلك في الكتابة الفلسفية.
(1) عزالدين الخطابي، مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب، حوار الفلسفة والبيداغوجيا، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى 2002، ص84.
(2) عزالدين الخطابي، مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب، حوار الفلسفة والبيداغوجيا، ص85.
(3) جميل صليبا،المعجم الفلسفي، الجزء
الثاني، دار الكتاب اللبناني، 1982، ص 379.
(4) شفيق اكركر-محمد بوتنباب-محمد
الخلوفي، منهجية الإنشاء الفلسفي، أفريقيا الشرق، ص28.
(5) توزي ميشيل/كاري ميشيل/بينوا ميشيل، الدراسة الفلسفية
للموضوعة والنص، ترجمة عزيز لزرق ومحمد شريكان، الطبعة الأولى 1996ص 92.
(6) المرجع نفسه صص92-93.
(7) جميل صليبا،المعجم الفلسفي،
الجزء الثاني، ص379.
(8) جميل صليبا،المعجم الفلسفي، الجزء
الثاني، ص379.
(9) المرجع نفسه، ص379.
(10) المرجع نفسه، ص379.
(11) شفيق اكركر-محمد بوتنباب-محمد الخلوفي، منهجية الإنشاء الفلسفي،
أفريقيا الشرق، ص28.
(12) شفيق اكركر-محمد
بوتنباب-محمد الخلوفي، منهجية الإنشاء الفلسفي، أفريقيا الشرق، ص 32.
(13) المرجع نفسه، ص32.
(14) توزي ميشيل (ومن معه)، بناء القدرات والكفايات في الفلسفة، ترجمة حسن أحجيج، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى 2005.ص 49-50.
(15) شفيق اكركر-محمد بوتنباب-محمد الخلوفي، منهجية الإنشاء الفلسفي، أفريقيا الشرق، ص 32.
(17) عزالدين الخطابي، مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب، حوار
الفلسفة والبيداغوجيا، ص85.
(18) Jacqueline Russ, les méthodes en
philosophie , Armand colin, 1992, p25.
(19) Jacqueline Russ, les méthodes en philosophie ,
Armand colin, 1992, p32.
(20) jacqueline Russ, les méthodes en
philosophie , Armand colin, 1992, p24.
(21) شفيق اكركر-محمد
بوتنباب-محمد الخلوفي، منهجية الإنشاء الفلسفي، أفريقيا الشرق، ص 19.
(22) Jacqueline Russ, les méthodes en philosophie ,
Armand colin, 1992, p128.
(23) Jacqueline Russ, les méthodes en philosophie ,
Armand colin, 1992, p124.
(24) Jacqueline Russ, les méthodes en
philosophie , Armand colin, 1992, p24.