حكمة مشروعية عقد الذمة
قصد الإسلام من تشريع عقد الذمة حكم كثيرة منها: أن يترك الحربي القتال برضائه، من أجل التعايش السلمي مع المسلمين، والعيش المشترك بينهم، وحتى تعطى له فرصة التعرف على محاسن الإسلام وأخلاق المسلمين وصفاتهم وحسن تعاملهم، فيكون ذلك داعيا إلى تحبيب الإسلام له والدخول فيه عن قناعة.(1) فالمسلم الحق داعية في سلوكه وأعماله قبل أن يكون داعية بلسانه، ذلك أن أساس المعاملة بين المسلمين وغيرهم هو اللطف والكلمة الطيبة على أن لا تكون على حساب العقيدة. إن الكلمة اللطيفة الطيبة عكس الغلظة والفظاظة والقسوة. وقد نبه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال له: يقول عز وجل: "وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ".(2) فإذا كان المسلمون يمكن أن ينفضوا عن الرسول لو كان فظا غليظا معهم – وحشاه من ذلك – فهل من المنتظر من غير المسلمين أن يقبلوا دعوتنا إذا واجهناهم بالفظاظة والغلظة؟(3)
كما أن الإسلام يهدف من وراء عقد الذمة إلى إظهار تسامح المسلمين مع غيرهم، حتى وإن خالفوهم في العقيدة، فإن الذميين في ظل الحكم الإسلامي يتمتعون بكامل حقوقهم ويعشون آمنين مطمئنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ومعتقداتهم، يحرم شرعا إذايتهم أو الإساءة إليهم، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذمة دين الإسلام.
وليس عقد الذمة ذا صلة بالاستعمار كما يتوهم بعض أعداء الإسلام، لأن نظام الإسلام يقوم على الحرية والإنسانية وبذل الحقوق لغير المسلمين، أما الاستعمار فيقوم على الاستعباد وسلب الحريات واستباحة أموال المغلوب، فنظرة إلى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران، توضح مدى التسامح مع الذميين من قبل المسلمين، حيث ورد في النص: "... لنجران وحاشيتها جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله، وعلى أموالهم وأنفسهم وأرضه وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثي. ولا يغير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته ولا كاهن عن كهاتنه...".(4) وهذا الكلام افحام لمن يشكك في سماحة الإسلام والمسلمين، ورد على من يتهم دين الإسلام بالتعصب ورفض غير المسلمين، فالإسلام قد أثبت بأحكامه ومبادئه قدرته على التعايش مع الأديان الخرى وأهلها، وضمان سيادة الأمن والسلام. وعلى عكس هذا ففي عصرنا الحالي أصبحنا نرى ما يفعله غير المسلمين بالمسلمين في بلدان شتى من العالم، حيث يمارسون ضدهم أبشع وسائل الإجرام والإبادة. كل ذلك لإجبارهم على ترك دينهم، وغريب أبنائهم، وطمس هويتهم الإسلامية.
إن الشيء الذي لا جدال فيه أنه ليس هنالك دولة تعطي رعاياها المخالفين لمبدئها حقوقا تمنحهم الأمن والرعاية ونحو ذلك كما تعطي الدولة الإسلامية، فإن كثيرا من دول العالم اليوم يحرم المسلمون فيها من أبسط الحقوق الإنسانية. ومثال ذلك ما يعانيه مسلمو الصين (الإيغور) وميانمار (الروهينغا).
وليس المقصود من عقد الذمة تحصيل المال، فالواقع أن أهداف عقد الذمة أسمى من ذلك، إذ يراد منها نشر الرسالة الإصلاحية بين الأمم، وبث العقيدة الصحيحة في قلوبهم، باعتبارها قضية الإنسان الأولى في هذا العالم، وبالتالي العمل على تثبيت دعائم السلم.(5)
بهذا تظهر لنا أهمية عقد الذمة والغاية من مشروعيته، إذ يعد سبيلا آخر إلى دعوة غير المسلمين إلى دين الإسلام، ووضعهم في الصورة الحقيقية لدين الله الحق, وايضاح محاسنه وآدابه, ورفقته, ورحمته وسهولة تكاليفه, فربما يميل قلب كافر لدين الحق فيؤمن به. ويكون بذلك العقد (عقد الذمة) سبيلا سليما من سبل الدعوة إلى الدين. يقول صاحب بدائع الصنائع: "شرعت الذمة في الإسلام لما اشتملت عليه من فوائد كثيرة لعقد الصلاة السليمة بين المسلمين وغيرهم, وقد وضع الإسلام لها قواعد وافية إذا روعيت نشأ عنها صلح دائم فيه الطمأنينة و السلام والأمن, فإذا عقد الحربي ذمة مع المسلمين أصبح آمنا على نفسه وولده وماله بعد أن كان دمه مهدرا وولده مسبيا وماله مغنوما وحماه مستباحا. ومن فوائدها أنها تعطي الحربي فرصته للاتصال بالمسلمين يعرضون أمامه كتاب الله, وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم".(6)
الهوامش
(1) تأصيل العلاقة مع غير المسلمين من خلال أحداث السيرة النبوية، حميد الصغير، ص 43.
(2) سورة آل عمران 159.
(3) حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية، ص 59.
(4) تأصيل العلاقة مع غير المسلمين من خلال أحداث السيرة النبوية، حميد الصغير، ص 43.
(5) حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية، علي عبد الرحمن الطيار، ص 62.
(6) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين أبي بكر الكساني، نشر دار الكتب العلمية، ط 1، 1998م، ج 9، ص 426.
**هذا المقال جزء من بحث لنيل شهادة الماستر تحت عنوان: دور العقيدة الإسلامية في ترسيخ قيم التسامح.