مشروعية عقد الذمة في القرآن والسنة النبوية

مشروعية عقد الذمة:

     يعتبر عقد الذمة أوضح وأقوى وأدوم العهود في مقابل عقد الصلح أو الهدنة أو عقد الأمان - الذي سيأتي التفصيل فيه في القادم من الموضوع – إذ بموجب عقد الذمة يتمكن غير المسلمين من السكنى بين المسلمين في دار الإسلام، كما يمتاز عن العهود الأخرى التي تعقد بين المسلمين وغيرهم بأنه عقد مؤبد ولازم، ومن ثم فهو بطبيعته وبما يحويه من التزامات، وما يترتب عليه من حقوق وواجبات في المرتبة الثانية من حيث ترتيب العلاقات الإنسانية من وجهة النظر الإسلامية – بعد الإسلام – فبواسطته يلتزم المسلمون لغيرهم كل ما من شأنه تيسير الحياة لهم بين ظهراني المسلمين، وبه تتحدد الواجبات التي يلتزم بها أهل الذمة في مقابل ذلك، ومن ثم اكتسب هذا العهد أهمية في بلورة هذه العلاقة، وما تعطيه السلطة الإسلامية من حق التدخل في شؤون أهل الذمة، وتحديد القيود الواردة عليها في ذلك.(1)

وأرى أن ما يمكن أن يفهمه المطلع على هذا الكلام هو مدى سماحة الإسلام ويسره وعدالته، ومدى رحمة الله عز وجل وحكمته في أن شرع عقد الذمة، لكي تكون هناك فرصة لغير المسلمين للاطلاع على هذه الفضائل والأخلاق الإسلامية، فلولا ذلك لما كانت لكافر داخل دولة الإسلام حياة. ومما يمكن فهمه أيضا أن هذا العقد (الذمة) الذي يتيح للمخالفين في الدين فرصة اكتشاف سماحة الدين الإسلامي بعد مخالطة المسلمين ومعاشرتهم، ومن شأن هذ أن يؤدي إلى تقبل بعض الكفار للدين للإسلامي والدخول فيه، وق يكون هذا الأمر الغاية والحكمة من مشروعية عقد الذمة – وسيأتي التأكيد من هذا أثناء الحديث عن الحكمة من مشروعية عقد الذمة – فالأمة الإسلامية كما صورها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة تسعى لبلوغ غاياتها في إقامة الدعوة، وتطبيق أحكام الله، يقول تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ".(2)

لقد ثبتت مشروعة عقد الذمة في الكتاب والسنة النبوية الشريفة وعمل الصحابة وإجماع أهل العلم، وفيما يلي موجز لبعض الأدلة على مشروعية عقد الذمة:

أولا: الدليل من القرآن والكريم؛

لا خلاف بين الفقهاء على أن آية واحدة في القرآن الكريم هي الأصل في كون عقد الذمة مشروعا، هذه الآية هي قول الله سبحان وتعالى "قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ".(3) ووجه دلالة الآية على مشروعية عقد الذمة، أنها أمرت بقتال من وصفتهم (الذين لا يؤمنون بالله – إلى قوله سبحانه وتعالى – من الذين أوتوا الكتاب) وجعلت لقتالهم غاية يحرم قتالهم بعدها، وهي إعطاء الجزية والصغار.

وقد فسر العلماء إعطاء الجزية بأنه إلتزامها.(4) وأما معنى الصغار في الآية، فالراجح أنه ما يتفق مع روح الإسلام أنه جريان أحكام الإسلام عليهم، وخوعهم لسلطان الدولة الإسلامية، إذ تصغر بذلك نفوسهم، لفقدهم الملك، وعجزهم عن مقاومة الحكم، وذوبان شخصيتهم السياسية باندماجهم في الدولة، وهذا بحده صغار عظيم، كما أن تكليف الشخص بما لا يطيق لا يعتقد يسمى صغار عرفا، لأن أشد الصغار على المرء أن يحكم عليه بما لا يعتقده، ويضطره إلى احتماله.(5) فمعنى الصغار إذا، إلتزامهم بأحكام الإسلام، فإذا التزموا ذلك للمسلمين التزم لهم المسلمون ما أفادته الآية الكرمة من التزامات ترتبن على تحريم قتالهم منها: التزام تركهم وما يدنون، والتزام عدم التعرض لأنفسهم وأمواهم... إلى غير ذلك. وهذا هو معنى التعاقد، أن يلتزم كل من المتعاقدين للأخر ما اتفقا عليه، وهذا المفهوم للآية الكريمة يفيد جواز الاتفاق على جهة الواجبات وهو معنى مشروعية العقد.

وقد يعترض على جهة الدلالة بأن إثبات المشروعية بناء على تفسير الإعطاء والصغار بالالتزام مُسَلَّم، ولكن ماذا يكون الأمر لو فسرا بغير ذلك؟ وتوضيح ذلك أن لإعطاء معنى حقيقيا هو الدفع والداء، وللصغار معاني أخرى غير التزام الأحكام. والرد على ذلك من وجوه أحدهما: أن الآية مفيدة بجملتها التزام المسلمين بما نصت عليه من تحريم قتالهم وما يترتب عليه من أحكام، والسنة النبوية بينت هذا الإجمال، ووضحت أن سبيل تحقيق ما في الآية من أحكام هو العهد أو العقد، كما سنبينه في ادلة المشروعية من السنة النبوية، فلو سلم ثبوت معاني أخرى للإعطاء والصغار منفردة عن معنى الالتزام، فلا يسقط الاستلال بالآية على مشروعية العقد.

والثاني: أن تفسير الإعطاء بالدفع والأداء وتفسير الصغار بغير الالتزام بالأحكام لا ينافي تفسيرهما بالالتزام، بل قد يجتمعان ولا يترتب على ذلك محظور. والوجه الثالث: أنه لا طريق لالتزام المسلمين مع غيرهم سوى العهد او العقد، يسري هذا على جميع أنواع الصلح التي تعقد بين المسلمين وغيرهم، مؤقتة كانت أم مؤبدة، بمال أم بدونه، إذا ثبت جواز المهادنة والأمان بطريق الاتفاق والتعاقد، فأولى أن يثبت الأمان المؤبد بين المسلمين وغيرهم وهو عقد الذمة بنفس الطريق، ومن هنا قال الفقهاء: إن عقد الذمة عقد أمان. وكون الآية الكريمة رتبت له أحكاما زائدة عن غيره من عقود الأمان لا ينافي كونه عقدا، ومن ثم تكون مشروعية المعاهدات، ولا ضير حينئذ في تفسير الإعطاء والصغار بغير الالتزام أو به.(6)

ثانيا: الدليل من السنة؛

هناك العديد من الأحاديث والشواهد من السنة على مشروعية عقد الذمة منها:

1 – ما رواه سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيشه أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: "اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال)، فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم وكف عنهم، ثم أدعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أن يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك، فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم".(7)

ووجه الدلالة أن قوله صلى الله عليه وسلم فاقبل منهم وكف عنهم، قول صيح في قبول الجزية وإنهاء القتال، وايجاد حالة سلم دائمة، ولم يحدد هذا السلم بمدة معلومة، والحديث بعمومه حجة في جوازها على عموم المشركين من غير تخصيص أهل الكتاب(8)

2 – ما قاله بن شعبة رضي الله عنه لعامل كسرى في وقعة نهاوند: "أمرنا نبينا رسول ربنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية".(9) وفي الحديث بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقتال الكفار حتى يؤدوا الجزية إذا لم سلموا.

3 – ما ثبت في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الجزية من يهود تيما ومن مجوس هجر، كما أخذها من نصارى نجران وغيرهم.(10)

ثالثا: الدليل من الإجماع وعمل الصحابة؛

قام الإجماع على مشروعية عقد الذمة وأخذ الجزية من غير المسلمين، واتفقوا على جواز أخذها من أهل الكتاب وهم اليود والنصارى، أو من له شبهة كتاب كالمجوس، وقد أخذها الخلفاء الراشدون الأربعة ومن جاء بعدهم.(11)

المطلب الثاني: حكمة مشروعية عقد الذمة:

قصد الإسلام من تشريع عقد الذمة حكم كثيرة منها: أن يترك الحربي القتال برضائه، من أجل التعايش السلمي مع المسلمين، والعيش المشترك بينهم، وحتى تعطى له فرصة التعرف على محاسن الإسلام وأخلاق المسلمين وصفاتهم وحسن تعاملهم، فيكون ذلك داعيا إلى تحبيب الإسلام له والدخول في عن قناعة.(12) فالمسلم الحق داعية في سلوكه وأعماله قبل أن يكون داعية بلسانه، ذلك أن أساس المعاملة بين المسلمين وغيرهم هو اللطف والكلمة الطيبة على أن لا تكون على حساب العقيدة. إن الكلمة اللطيفة الطيبة عكس الغلظة والفظاظة والقسوة. وقد نبه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال له: يقول عز وجل: "وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ".(13) فإذا كان المسلمون يمكن أن ينفضوا عن الرسول لو كان فظا غليظا معهم – وحشاه من ذلك – فهل من المنتظر من غير المسلمين أن يقبلوا دعوتنا إذا واجهناهم بالفظاظة والغلظة؟(14) 

كما أن الإسلام يهدف من وراء عقد الذمة إلى إظهار تسامح المسلمين مع غيرهم، حتى وإن خالفوهم في العقيدة، فإن الذميين في ظل الحكم الإسلامي يتمتعون بكامل حقوقهم ويعشون آمنين مطمئنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ومعتقداتهم، يحرم شرعا إذايتهم أو الإساءة إليهم، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذمة دين الإسلام.

وليس عقد الذمة ذا صلة بالاستعمار كما يتوهم بعض أعداء الإسلام، لأن نظام الإسلام يقوم على الحرية والإنسانية وبذل الحقوق لغير المسلمين، أما الاستعمار فيقوم على الاستعباد وسلب الحريات واستباحة أموال المغلوب، فنظرة إلى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران، توضح مدى التسامح مع الذميين من قبل المسلمين، حيث ورد في النص: "... لنجران وحاشيتها جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله، وعلى أموالهم وأنفسهم وأرضه وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثي. ولا يغير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته ولا كاهن عن كهاتنه...".(15) وهذا الكلام افحام لمن يشكك في سماحة الإسلام والمسلمين، ورد على من يتهم دين الإسلام بالتعصب ورفض غير المسلمين، فالإسلام قد أثبت بأحكامه ومبادئه قدرته على التعايش مع الأديان الخرى وأهلها، وضمان سيادة الأمن والسلام. وعلى عكس هذا ففي عصرنا الحالي أصبحنا نرى ما يفعله غير المسلمين بالمسلمين في بلدان شتى من العالم، حيث يمارسون ضدهم أبشع وسائل الإجرام والإبادة. كل ذلك لإجبارهم على ترك دينهم، وغريب أبنائهم، وطمس هويتهم الإسلامية.

إن الشيء الذي لا جدال فيه أنه ليس هنالك نهحج تعطي رعاياها المخالفين لمبدئها حقوقا تمنحهم الأمن والرعاية ونحو ذلك كما تعطي الدولة الإسلامية، فإن كثيرا من دول العالم اليوم يحرم المسلمون فيها من أبسط الحقوق الإنسانية. ومثال ذلك ما يعانيه مسلمو الصين (الإيغور) وميانمار (الروهينغا).

وليس المقصود من عقد الذمة تحصيل المال، فالواقع أن أهداف عقد الذمة أسمى من ذلك، إذ يراد منها نشر الرسالة الإصلاحية بين الأمم، وبث العقيدة الصحيحة في قلوبهم، باعتبارها قضية الإنسان الأولى في هذا العالم، وبالتالي العمل على تثبيت دعائم السلم.(16)

بهذا تظهر لنا أهمية عقد الذمة والغاية من مشروعيته، إذ يعد سبيلا آخر إلى دعوة غير المسلمين إلى دين الإسلام، ووضعهم في الصورة الحقيقية لدين الله الحق, وايضاح محاسنه وآدابه, ورفقته, ورحمته وسهولة تكاليفه, فربما يميل قلب كافر لدين الحق فيؤمن به. ويكون بذلك العقد (عقد الذمة) سبيلا سليما من سبل الدعوة إلى الدين. يقول صاحب بدائع الصنائع: "شرعت الذمة في الإسلام لما اشتملت عليه من فوائد كثيرة لعقد الصلاة السليمة بين المسلمين وغيرهم, وقد وضع الإسلام لها قواعد وافية إذا روعيت نشأ عنها صلح دائم فيه الطمأنينة والسلام والأمن, فإذا عقد الحربي ذمة مع المسلمين أصبح آمنا على نفسه وولده وماله بعد أن كان دمه مهدرا وولده مسبيا وماله مغنوما وحماه مستباحا. ومن فوائدها أنها تعطي الحربي فرصته للاتصال بالمسلمين يعرضون أمامه كتاب الله, وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم".(17)

الهوامش

(1) عقد الذمة أحكامه وآثاره في الفه الإسلامي، محمد سيد أحمد محمد عامر، نشر مكتبة الوفاء القانونية، ط 1، 2011، ص 12.

(2) سورة آل عمران 110.

(3) سورة التوبة 29.

(4) عقد الذمة أحكامه وآثاره في الفه الإسلامي، محمد سيد أحمد محمد عامر، ص 42.

(5) حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية، علي بن عبد الرحمن الطيار، ص 52.

(6) عقد الذمة أحكامه وآثاره في الفه الإسلامي، محمد سيد أحمد محمد عامر، ص 44-45.

(7) إخرجه مسلم في صحيحه، 1357.

(8) حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية، علي بن عبد الرحمن الطيار، ص 53.

(9) أخرجه البخاري في صحيحه، 3159.

(10) تأصيل العلاقة مع غير المسلمين من خلال أحداث السيرة النبوية، حميد الصغير، ص 42.

(11) حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية، علي عبد الرحمن الطيار، ص 55.

(12) تأصيل العلاقة مع غير المسلمين من خلال أحداث السيرة النبوية، حميد الصغير، ص 43.

(13) سورة آل عمران 159.

(14)حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية، ص 59.

(15) تأصيل العلاقة مع غير المسلمين من خلال أحداث السيرة النبوية، حميد الصغير، ص 43.

(16) حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية، علي عبد الرحمن الطيار، ص 62.

(17) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين أبي بكر الكساني، نشر دار الكتب العلمية، ط 1، 1998م، ج 9، ص 426.


 **هذا المقال جزء من بحث لنيل شهادة الماستر تحت عنوان: دور العقيدة الإسلامية في ترسيخ قيم التسامح.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق