التعريف بمصطلح الذمة في الفقه الإسلامي
أولا: مفهوم الذمة في اللغة:
جاء في المصباح المنير في باب الذال مع الميم: ذمم ذَممته أذمه ذما خلاف مدحته فهو ذميم ومذموم أي غير محمود، والذمام بالكسرة ما يذم به الرجل على إضاعته من العهد، وتفسر الذمة بالعهد والأمان وبالضمان أيضا، وسمي المعاهد ذميا نسبة إلى الذمة بمعنى العهد، وقولهم في ذمتي كذا أي في ضماني، والجمع ذمم.(1) وعرفت الذمة أيضا على أنها العهد والعقد، فقالوا الذمة بالكسر العهد، ورجل ذمي: أي رجل له عهد أو عقد، وأهل الذمة أي أهل العهد أو أهل العقد وهم الذين يؤدون الجزية من المشركين. (2)
والذميون: جمع مفرده الذمي، منسوب إلى الذمة وهي العهد، مأخوذة من الذِمام وهو الحرمة والحق، وسمي الذِمام بذلك لأنه يلزم بتضييعه المذمة. (3)
والذمة بكسر الذال وفتح الميم المشددتين وردت بمعان عدة هي: العهد والعقد، والكفالة والضمان، والأمان والحق والحرمة. وفي معنى العهد، فالذمة بالكسر تعني العهد ورجل ذمي معناه: رجل له عهد وعقد، ومن ذلك يسمى أهل الذمة: أهل العهد أو أهل العقد وهم المعاهدون من النصارى واليهود وغيرهم ممن يقيمون في دار الإسلام.(4) قال تعالى: "لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً"(5) أي عهدا. وجاءت كلمة ذمة بمعنى: كفالة وضمان، والجمع ذمام، ومنه قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - "ذمتي رهينة وأنا به زعيم" أي ضماني وعهدي رهن في الوفاء به.(6) كما جاءت بمعنى: أمان أي الذمة: الأمان، ولهذا سمي المعاهد ذميا، لأنه أعطي الأمان على ماله وعرضه ودينه.(7) وقد تأتي كلمة الذمة بمعنى: الحق والحرمة، ويقال فلان له ذمة: أي حق والذمامة: الحق والذمام الحرمة.(8) وقد تطلق الذمة على الذات والنفس اللتين هما محلها، فنقول في ذمة كذا وبرئت ذمته من كذا، كما تطلق على المعنى الذي يصلح للإلزام والالتزام، ويلحق بذلك لفظ الصلح فهو عام في كل صلح، ويتناول صلح المسلمين بعضهم مع البعض وصلحهم مع الكفار، والصلح مع أهل الذمة صلح دائم.(9) وعلى هذا يمكن القول بأن عقد الذمة عقد بمقتضاه يصير غير المسلم في ذمة المسلمين أي في عهدهم وأمانهم على وجه التأبيد وله الإقامة في دار الإسلام على وجه الدوام.(10) فسموا بذلك: لأن لهم عهد الله وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعهد جماعة المسلمين، أن يعيشوا في حماية الإسلام. وفي كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين، فهم في أمان المسلمين وضمانهم، بناء على "عقد الذمة" بينهم وبين أهل الإسلام، - وسيأتي الحديث عن عقد الذمة ومشروعيته في القادم من مباحث الموضوع إن شاء الله -. فهذه الذمة تعطي أهلها من غير المسلمين ما يشبه في عصرنا "الجنسية" السياسية التي تعطيها الدولة لرعاياها, فيكتسبون بذلك حقوق المواطنين ويلتزمون بواجباتهم. (11)
ثانيا: الذمة في الاصطلاح:
سيجد المطلع على كتب الفقه الإسلامي أن علماء الفقه المسلمين قد اصطلحوا على نعت المواطنين في بلاد الإسلام من غير المسلمين في الكتب ب أهل الذمة, وهو اسم حسن, لا كما يظن بعض الناس من أنه مذموم, وسيأتي الحديث فيما بعد عن ما يؤيد هذا الكلام, فأهل الذمة يسمون بذلك بمعنى: أهل العهد والأمان, لأنهم يصيرون في ذمة محمد صلى الله عليه وسلم وفي ذمة المسلمين, أي في عهدهم وأمانهم على وجه التأبيد.(12) وهذا يعني أن العقد الذي يجمع بين المسلمين وغيرهم في بلاد الإسلام, هو عقد أبدي. وما يؤكد على أن تسمية المواطنين من غير المسلمين في بلاد الإسلام ب"أهل الذمة" ليس من باب الذم والتبخيس ما جاء في حديث بريدة رضي الله عنه من وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل أمير يبعثه للجهاد حيث كان يقول له: "وإذا حاصرت أهل حصن, فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه, فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه, ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك, فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله".
وكذا يؤيد حسن المراد بهذا المصطلح (أهل الذمة) ما جاء في كتاب الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه, لأهل نجران: "باسم الله الرحمان الرحيم, هذا ما كتب به عبد الله أبو بكر خليفة محمد صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: أجارهم بجوار الله وذمة محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنفسهم, وأرضهم, وملتهم, وأموالهم, وحاشيتهم, وعبادتهم, وغائبهم, وشاهدتهم, وأساقفتهم, ورهبانهم, وبيعهم, وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير, لا يخسرون, ولا يعسرون..."
وكذلك ما جاء في وصية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين وفاته للخليفة من بعده, حيث قال: "... وأوصيه بذمة الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم, وأن يقاتل من ورائهم, ولا يكلفوا إلا طاقتهم".(13)
وقد عرفت الذمة في الاصطلاح بتعريفات عدة, وسآتي في هذا المقام إلى ذكر أهمها:
إذ عرفت على أنها عقد معاهدة سلم دائمة مع غير المسلمين للاستيطان في دار الإسلام, يعيشون في ظل الحكم الإسلامي يؤدون الجزية, ولهم ذمة مؤبدة على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم من قبل المسلمين, ذلك أن قبول الجزية تثبت معه عصمة الأنفس و الأعراض, والجزية هي الضريبة النقدية المفروضة على الأشخاص القادرين غير المسلمين, وتكون مقدرة وفقا لحالة كل واحد منهم الاقتصادية, مقابل حمايتهم والمحافظة عليهم.(14)
وعرفت الذمة أيضا على أنها التزام تقرير غير المسلمين في دارنا وحمايتهم والذب عنهم, بشرط بذل الجزية والاستسلام منهم.(15) بمعنى أنهم يقرون بكفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة.
وعرف أهل الذمة كذلك على أنهم هم غير المسلمين, الذين يسكنون بلاد المسلمين وصالحهم المسلمون على أن يدفعوا للمسلمين الجزية.(16) وأهل الذمة هم المستوطنون في بلاد الإسلام من غير المسلمين, وسموا بهذا الاسم لأنهم دفعوا الجزية فأمنوا على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم, وأصبحوا في ذمة المسلمين, وكانت تقاليد الإسلام تقضي بأنه إذا أراد المسلمين غزو إقليم وجب عليهم أن يطلبوا من أهله اعتناق الإسلام, فمن استجاب منهم طبقت عليه أحكام المسلمين, ومن امتنع فرضت عليه الجزية.(17)
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أئمة المذاهب الفقهية قد اختلفوا في تحديد اصطلاح "الذمة" فقد عرفه الحنفية بأنه الأمان المؤبد, والذمي عندهم هو: كافر - ماعدا عبدة الأوثان من العرب والمرتدين - يقر في ديار الإسلام آمنا على التأبيد بشرط بذل الجزية.
وأما عند المالكية فيفهم معنى الذمة من تعريفهم للجزية عندما قالوا أنها: "مال يضربه الإمام على كافر ذكر حر مكلف قادر مخالط يصح سباؤه لم يعتقه مسلم لاستقراره آمنا بغير الحجاز واليمن". ويعني عقد الذمة عند الشافعية, العقد الغير مؤقت بل هو أبدي يسري على من عقده مع المسلمين وعلى ذرياته من بعده. وعند الحنابلة هو: إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة.
من هذه التعريفات حسب ما ورد في مذاهب الفقهاء, يمكن القول بأن أهل الذمة أو الذميين عند الفقهاء هم المستوطنون من غير المسلمين, العقلاء الأحرار الذكور القادرون على حمل السلاح والقتال الذين ارتضوا العيش في دار الإسلام, ولهم ذمة مؤبدة على أرواحهم وأعراضهم وأمولهم مع ممارستهم لدياناتهم, وقد تعهدوا في مقابل ذلك بدفع مبلغ من المال يتناسب مع قدرتهم المالية دون إجحاف أو شطط, وهو ما يطلق عليه اسم "الجزية" مع التزامهم باحترام أحكام الإسلام ونظامه العام. وإطلاق هذا اللقب عليهم إشارة إلى أن لهم عهد الله وعهد رسوله صلى الله عليه وسلم, وعهد جماعة المسلمين, بأن يعيشوا في حماية الإسلام, وفي كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين, فهم في أمان المسلمين وضمانهم بناء على عقد الذمة, وهم معدودون من رعايا الدولة الإسلامية بحكم هذا العقد الذي عقدوه مع المسلمين, وقد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ما داموا مقيمين في دار الإسلام. فالذمي على هذا الأساس من أهل دار الإسلام كما عبر الفقهاء, أو من حاملي الجنسية الإسلامية, كما يعبر المعاصرون.(18) فهذا اللقب الذي يطلق عليهم إنما هو لقب يشرفهم ويكرمهم. وليس لتحقيرهم أو لإهانتهم كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
ويقتضي بنا المقام هنا الإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عقد لأهل الكتب المنزلة كاليهود والنصارى, فهؤلاء تعقد لهم الذمة ويقرون على دينهم بشرط التزام الجزية, وذلك بنص القرآن الكريم, فقد قال تعالى: "قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ".(19)
كما عقد صلى الله عليه وسلم الذمة أيضا لمن لهم شبهة كتاب كالمجوس, وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" وكذلك أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر. - وهذا إن كان يدل على شيء فإنما يدل على مشروعية عقد الذمة, كما سيتم بيان ذلك - وأما من كان من غير المسلمين وليس له كتاب أو شبهة كتاب, مثل عبدة الأوثان والأصنام والحيوانات والجمادات من فلك أو نجم أو نحو ذلك, فهؤلاء لم يعقد لهم النبي صلى الله عليه وسلم ذمة ولا حصّل منهم جزية, وقد نزل الوحي لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: "تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ".(20) وأما المرتدون وهم الذين كانوا على دين الإسلام فرجعوا عنه, فهؤلاء لم قبل النبي صلى الله عليه وسلم منهم جزية, فإنما هو الإسلام أو القتل. ويشترط في عقد الذمة أن يلتزم الذميون بدفع الجزية ما داموا سيستقرون في بلاد المسلمين, ولم تكن الجزية التي أخذها النبي صلى الله عليه وسلم مقيدة بجنس, بل أخذها دنانير ودراهم, كما أخذها من الثياب على حسب ما يقدرون عليه. (21)
فعقد الذمة هو ما يضمن تبادل الحقوق وتمتع كل من الطرفين بها, سواء المسلمين أو أهل ذمتهم, بإزاء ما على كل طرف من واجبات, فما هي الحقوق التي كفلها الشرع لأهل الذمة, وما هي واجباتهم؟ وستأتي الإجابة عن هذا التساؤل بإذن الله في الفصل الثاني من البحث الخاص بحقوق وواجبات غير المسلمين في بلاد الإسلام.
الهوامش
(1) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير, أحمد بن محمد الفيومي, ج 1, ص 80.
(2) لسان العرب, ابن منظور, ج 5, ص 111.
(3) القاموس المحيط, الفيروز آبادي, ج 4, ص 117.
(4) تاج العروس من جواهر القاموس, للزبيدي, ج 8, ص 301.
(5) سورة التوبة 10.
(6) تاج العروس، ج 8, ص 301.
(7) لسان العرب, ج 5, ص 111.
(8) تاج العروس من جواهر القاموس, للزبيدي, ج 8, ص 301.
(9) حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية، علي بن عبد الرحمن الطيار، نشر مكتبة فهد الوطنية، ط 1، 2004، ط 2، 2006، ص 43.
(10) تأصيل العلاقة مع غير المسلمين من خلال أحداث السيرة النبوية، حميد الصغير، موقع الألوكة ص 40، www.alukah.net,
(11) غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، يوسف القرضاوي، نشر مكتبة وهبة، ط 3، 1992، ص 7.
(12) حقوق غير المسلمين في بلاد الإسلام، صالح بن حسين العايد، نشر مكتبة فهد الوطنية، ط 4، 2008، ص 9.
(13) حقوق غير المسلمين في بلاد الإسلام، صالح بن حسين العايد، ص 10-11.
(14) تأصيل العلاقة مع غير المسلمين من خلال أحداث السيرة النبوية، حميد الصغير، ص 40.
(15) أحكام التعامل مع غير المسلمين والاستعانة بهم في الفقه الإسلامي، عبد الحكيم أحمد عثمان، نشر العلم والإيمان، ط 1، 2008، ص 90.
(16) التعامل مع غير المسلمين في السنة النبوية، عبد الله بن عبد العزيز الجبرين، ص 84.
(17) الإسلام وأهل الذمة، علي حسني الخربوطلي، نشر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ص 65.
(18) حقوق غير المسلمين في دولة الإسلامية، علي عبد الرحمان الطيار، ص 45-46-47.
(19) سورة التوبة 29.
(20) سورة الفتح 16.
(21) التعامل مع غير المسلمين في العهد النبوي، ناصر محمدي محمد جاد، نشر دار الميمان، ط 1، 2009، ص 160-161.
**هذا المقال جزء من بحث لنيل شهادة الماستر تحت عنوان: دور العقيدة الإسلامية في ترسيخ قيم التسامح.