مكانة المرأة داخل الأسرة

مكانة المرأة داخل الأسرة

تعتبر المرأة في الأسرة العنصر الثابت والركيزة الدائمة، وهي النبع الطبيعي للعطاء والحنان، في حين ان الرجل هو عامل ارتباط الأسرة بما هو خارجي، فهو الذي يمارس الصراع في الخارج، صراعا ماديا لكسب العيش. ولسنا هنا بصدد اظهار ثنائية الرجل والمرأة أو المفارقة بينهما من خلال دور كل منهما في الأسرة، وإنما سنخص بالحديث المرأة (الأنثى) والمكانة التي خصها الإسلام للأنثى داخل أسرتها، من خلال علاقاتها بالأفراد. فالمرأة هي البيئة التي يجد فيها أفراد الأسرة من زوج وأولاد السكينة الطمأنينة والأمان، وهو ما لن يجدونه خارج الأسرة.

الأنثى بشكل عام سواء كانت بنتا أو زوجة أو أما يمكن أن نقول عنها أنها أساس تنظيم السرة والحفاظ على استقرارها ودوام الأمان والمودة بين أفرادها.

أولا: الأنثى بنتا في الإسلام،

لم يكن اهتمام الإسلام بالمرأة أمرا عارضا، وغنما هو اهتمام نابع من صميم هذا الدين وجوهره، الذي يرفع من قيمة الإنسان ليكون جديرا بخلافة الله على هذه الأرض. والمرأة هي النصف الأخر لهذا الإنسان، وقد بوأها الإسلام مكانة سامية، بعد أن هدرت حقوقها القوانين الأرضية، حتى كانت سلعة تباع وتشترى، ووهبها الإسلام نفسها، وأعطاها حرية الكلمة والشعور، ومضى معها على الدرب الطويل منذ ولادتها، فقد كرمها مولود حين حرم وأدها، وأعطاها حق الحياة لقوله تعالى: " إِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ".[1] فأي ذنب جنته المولودة، حتى استحقت عليه الوأد قبل أن ترى النور؟

وإلى جانب الوأد قايست الأنثى ظلما من نوع أخر هو السبي، فقد عد الجاهلون المرأة من سقط المتاع الذي ينهب في الحروب، ويتصرف به كيفما شاء من بيع وتمتع وامتهان واسترقاق، غير آبهين لأرحام قطعت وأنساب اختلطت وجاء الإسلام فحرم السبي.

وكان امتهان إنسانية المرأة، فسوى الإسلام بين دمها ودم الرجل، صار يقتل قاتلها، كما سوى بينهما في حد القذف، وفي أمور شتى. كما استأثر ذويهن بالمهور، فجعلها الإسلام حقا لهن خالصا لا ينزعه إلا ظالم لقوله عز وجل "وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً".[2] وحرمن من الميراث، فقرر لهن الإلام حقوقهن فيه، يقول تعالى " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ".[3]

تلك بعض مظالم المرأة قبل الإسلام فقضى عليها دين الإسلام وعلى غيرها قضاءً تاما، وأعطى الأنثى من الحقوق ما جعلها مساوية للرجل، قالت عائشة رضي الله عنها " إنما النساء شقائق الرجال".

لقد جاهد الرسول صلى الله عليه وسلم جهادا قويا لانتزاع ما تبقى في نفوس العرب من كره البنات، وكان صلوات الله عليه قدوة حسنة مع بناته وأزواجه، حدثت عائشة رضي الله عنها "دخلت عليا امرأة ومعها ابنتان لها تسأل، فلم تجد عندي شيئا غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، فقسمتها بين ابنتيها، فلم منها، ثم قامت فخرجت. فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا، فأخبرته فقال "من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له شرا من النار".

ولرسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تفجر القلوب رحمة وحنانا على البنات "من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن كن له حجابا من النار يوم القيامة" وقوله عليه السلام "من عال ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو أختين أو بنتين فأدبهن وأحسن إليهن وزوجهن فله الجنة". وقوله أيضا "من كان له ابنة فأدبها فأحسن تأديبها، وغناها فأحسن غذاءها، وأسبغ عليها من النعمة التي اسبغ الله عليه كانت له ميمنة وميسرة من النار إلى الجنة".

ويؤكد رسول الله صلى عليه وسلم على المساواة في العطاء بين البنت والولد "ساووا بين أولادكم في العطية فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء". وقد شدد عليه السلام على هذه المساواة، وجعل ثوابها الجنة، "من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤْثِر ولده عليها أدخله الله تعالى الجنة". إن الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة عظيمة عطفا وحنانا وصورة رائعة في معاملة الأنثى، وهي أحوج ما تكون إلى مثل هذا العطف وذلك الحنان، فقد كانت فاطمة رضي الله عنها رضي الله عنها تدخل عليه فيقوم لها ويأخذ بيدها ويقبلها ويجلسها في مجلسه. وكان إذا أراد سفرا جعلها أخر العهد به، ثم صلى ركعتين ومضى. فإذا قدم من سفر جعلها أول العهد به، بعد أن يبدا بالمسجد فيصلي ركعتين وكان يحمل امامة بنت زينب ابنته، وهو يصلي الفريضة، فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها".[4]

فقد كان صلى الله عليه وسلم يعامل بنانه معاملة في منتهى الرحمة والمحبة والعطف، ومن هذه المعاملة النبوية أنه دعاهن بالحسنى للإسلام رحمة بهن، فأسلمن كلهن، وهاجرن معه عليه السلام، وغذا أقبلن عليه أحسن استقبالهن والترحيب بهن. وكان صلى الله عليه وسلم خير من يستأمن على أسراره بناته رضي الله عنهن، ويجتهد في ان يدخل السرور والفرحة على قلوبهن، أما إذا مرضت إحداهن فإنه صلى الله عليه وسلم يكون لها نعم الطبيب المداوي ونعم المواسي الرحيم. عن عائشة أم المؤمنون رضي الله عنها قالت "إنا كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده جميعا لم تغادره منا واحدة، فأقبلت فاطمة عليها السلام تمشي، لا والله ما تخفى مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها رحب قال:[مرحبا بابنتي] وأجلسها عن يمينه، أو عن شماله، ثم سارّها، فبكت بكاء شديدا، فلما رأى حزنها، سارّها الثانية، فإذا هي تضحك فقلت لها أنا من بين نسائه: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسرّ من بيننا، ثم أنت تبكين. فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عما سارك، قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره. فلما توفي قلت: أما الآن فنعم، فأخبرتني قالت: أما حين سارني في الأمر الأول فإنه أخبرني أن "جبريل كان يعارض بالقرآن كل ست حرة وإنه قد عارضني به العام مرتين ولا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله واصبري فإني نعم السلف أنا لك". قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما جزعي سارني الثانية، قال: "يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة". [رواه البخاري ومسلم].

وحين تعترض لهن مشاكل في حياتهن الزوجية كباقي الناس يسعى صلى الله عليه وسلم بالرحمة والحكمة لإصلاح ذات البين. وقد ذهب ذات مرة إلى بيت فاطمة رضي الله عنها، فسألها عن زوجها علي رضي الله عنه قائلا: "أين ابن عمك"، فقالت: كان بيني وبينه شيء فخرج. فأرسل يبحث عنه، فقيل له: هو نائم في المسجد، فآتى إليه، وقد سقط رداؤه عن جنبه وعلق به التراب، فجعل يمسح عنه التراب، ويقول: "قم أبا التراب، قم أبا تراب".[5] كما كان عليه السلام يشاركهن مناسباتهن سواء كانت أفراحا أو أقراحا. فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عيله وسلم عقّ عن الحسن والحسين كبشا كبشا.[6] وفي رواية النسائي (كبشين كبشين). وقال الشيخ الالباني عن الرواية أنها الأصح. ولم يكن صلى الله عليه وسلم لتنتهي توجيهاته وتوصياته لبناته بمجرد ان تزوجن، بل كان يتابع التربية والتعليم والتوجيه والنصح حتى في وجودهن في بيوت أزواجهن. ليس تدخلا منه في شؤون الغير بل عونا لهن على أن يكن خير النساء وخير الأزواج. وقد بلغ صلى الله عليه وسلم من محبته لبناته ورحمته بهن أنه اهتم بمن سبقه في الوفاة فغسلهن ووضع شيئا من ثيابه مع كل واحدة منهن ليكون معها في قبرها رحمة وشفاعة. فعن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: "دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته (زينب)، فقال: اغسلنها ثلاثا، أو خمسا أو أكثر من ذلك، إن رأيتن ذلك بماء وسدرٍ، واجعلن في الأخرة كافورا، أو شيئا من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه فأعطنا حفوه. أي إزاره، فقال اشعرنا إياه".[7] "أشعرنها" من الإشعار، هو إلباس الثوب الذي يلي بشرة الإنسان.[8]

وهذه الأنثى الطفلة احاطها رسول الله عليه السلام بحبه في ارق مشاعرها، وأدق حالاته. فعن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "من فرح ابنته فكأنما اعتق رقبة من ولد اسماعيل، ومن أقر عين ابنته فكأنما بكى من خشية الله". وأمضى صلى الله عليه وسلم مع هذه الطفلة، وقد بلغت بلوغ الصبا حتى أضحت زوجة يحيطها الإسلام والرسول بفيض من الرعاية والاكرام والتبجيل. وقد وضع لها عنوانا يفيض رحمة وألفة وأمنا يقول سبحانه "هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ"[9] واللباس يعني الحماية والأمن والجمال، وأعلى من ذلك وأكثر الأنس والألفة، وهو وصف عظيم للمجالسة والمؤانسة التي أوجدها الخالق عز وجل بين الرجل والمرأة. فهي والحالة هذه ترتبط بالرجل في جميع أدوار حياتها بين سمعها وبصرها ينشأ الطفل، وتحت رعايتها يكبر، وبآدابها يتغذى، وهي منبع الإخلاص والوفاء وهي عون الرجل في شدته.

إن الحديث عن الأنثى ومكانتها كبنت أو طفلة، يجرنا للحديث عنها كزوجة، وفيما يأتي سنبين مكانتها باعتبارها زوجة؛ فمن الواضح والمعلوم أن الإسلام قد اهتم بالزوجة اهتماما كبيرا، فوضع لها اعدل التشريع وأقومه. ووقف الرسول صلى الله عليه وسلم يدافع عنها دفاعا يرسم لها فيه صورة الرجل الذي ستكون له شريكة فقال صلى الله عليه وسلم "إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، ألا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير". والدين الحنيف، دين سيدنا محمد صلى الله عله وسلم يضع حول المرأة سياجا من الأمان والاستقرار، فهو يأمر بالمساواة الحقة بين الزوجين، ويبين حقوق كل منهما. قال سبحانه وتعالى "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ".[10]

ثانيا: الأنثى زوجة في الإسلام،

لقد كرم الإسلام الأنثى أعظم تكريم، واهتم بها كل الاهتمام، بنتا وزوجة وأما، ووقف الرسول صلى الله عله وسلم إلى جانبها في جميع مراحل حياتها، مؤكدا في ذلك دين الله الإسلام، الذي وضع المرأة أطر الأمان والاطمئنان، فساوى بينها وبن الرجل، وقضى لها بالسعادة الواجبة عليه، قال سبحانه "فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ"،[11] وعظم القرآن شأن الرابطة الزوجية، وحث على الوفاق بين الزوجين، وحث الزوج بصورة خاصة على حسن المعاشرة، وعدم الاستجابة لعاطفة النفس ونزواتها، وبذل الجهد في الصلح والتوفيق بين الزوجين، مع عطف على المرأة بنوع خاص بمختلف الصور في مختلف المجالات.

واسبغ القرآن على الحياة الزوجية معنى رائعا بقوله تعالى "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ".[12] هذه الآية تذكر الزوجين معا بمدى ما في هذه الحياة من هدوء وسكينة استقرار، على أساس ما أوجده فيهما من قابلية التواد والتراحم، وحين توجب عليهما بطبيعة الحال أن يفهماها ويمارساها على هذا الوجه، وتوجب عليهما أن يكون أساس المودة والرحمة التي تقوم عليه متقابلا في الفهم والشعور على قدم المساواة. والزوجية الصالحة ينبغي أن تقوم على المودة والرحمة، وكل زواج يقوم على غيرهما، لا يقوم على النهج الإسلامي الصحيح، ثم إن الله تعالى هو العليم بخلقه، رسم للأزواج سبل التصالح إن وقع بينهما شقاق في قوله سبحانه "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا".[13] وقوله عز وعلا "وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا".[14]

إن المتأمل في كتاب الله الكريم يرى أنه حرص في أكثر من موضع على صيانة كيان الأسرة، ووضع الحلول لتفادي مساوئ افتراق الزوجين، وكفى عظة للمؤمنين ما حكاه الله في سورة المجادلة إذ يستمع الله في عليائه لزوجة تجادل في زوجها رسول الله صلى الله عله وسلم "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ".[15] وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها في قصة هذه المجادلة "تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى على بعضه، وهيي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عله وسلم وهي تقول: يا رسول الله، أ كل شبابي، نثرت له بطني، حتى إذا كبر نسي وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكوا إليك، فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ".[16]

والمصطفى صلوات الله عليه هو المثل الأعلى للزوج، فهو يقول "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" والحديث يوجب رفق الرجل بالمرأة، واحترام أحاسيسها ومشاعرها، وأن يكون لهم الرسول عليه السلام في ذلك المثال والكمال، فقد كان أبر زوج، وأوفى عشير، يخصف نعله، ويرقع ثوبه ويحلب شاته، ويكون في مهنة أهله، ولقد كن يتظاهرن عليه، ويسألنه احيانا ما لا يستطيع حتى خيّرهن الله تعالى بقوله "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا 28 وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا"،[17] وقال النبي صلى الله عله وسلم لعائشة: لا تعجلي برأي تستشيري أبويك، فقالت أفيك أستشير أبوي يا رسول الله؟ إني أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وكذلك قال نساؤه أجمعين.

وتمثل الزوجة احدى بنات آدم عليه السلام وكل بني آدم خطاء كما قال رسول الله صلى الله عله وسلم، وفي هذا ابراز لضعف المرأة، وتصريح إلى ما قد تقع فيه من الخطأ، ولكنه الخطأ لذي لا تهتز له كيان الأسرة، وهذا يحتاج الرجل معه غلى الوقوف إلى جانب الزوجة، ويرشدها وينصحها ويهديها، وإذا شاب هذا النصح بعض الشدة، فهي الشدة التي لا يظلمها بها، وقد قال رجل للحسن، يخطب ابنتي الكثيرون فممن أزوجها؟ فقال: زوجها ممن يتقي الله، فإن أحبها أكرمها وغن أبغضها لم يظلمها.

كما أن الرسول صلى الله عله وسلم أعظم قدوة في نصح الزوجة وارشادها، حتى وإن كانت هذه الزوجة ابنته المحبوبة فاطمة، فقد كن في الإمام علي شدة على السيدة فاطمة فقالت يوما: والله لأشكونك إلى رسول الله، فانطلقت، وانطلق علي بأثرها، فقام بحيث يسمع كلامها، فشكت للرسول غلظ علي وشدته عليها، فقال: يا بنت اسمعي واستمعي واعقلي، إنه لا امرأة، لا تأتي هوى زوجها وهو ساكت، فقال علي: فكففت عما كنت أصنع، وقلت: والله لا آتي شيئا تكرهينه أبدا.

وفي رد الرسول صلى الله عله وسلم على فاطمة ابنته حث الزوجة على طاعة زوجها، وأن على الزوجة حتى تهيء لأفراد الأسرة أجواء الأمان والحماية والاستقرار والمودة، وليكونوا أعضاء أسوياء تمضي بهما سفينة الحياة بعيدا عن الهزات التي قد تتعرض لها، حتى تتوافر في مجتمع تحكمه عوامل القوة البناءة. وفي رد السول عليه السلام الشدة المغلفة بالحب لهذه الزوجة وهي ابنته، ففي رده عليها رد على الزوجات جميعا وهو المعلم القدوة فيما يقول أو يفعل أو يقر، ويوم جاءت فاطمة تطلب من الرسول خادما يعينها على بعض أمر بيتها قال: "اتقي الله يا فاطمة، وأدي فريضة ربك، واعملي عمل أهلك، فإذا أخذت مضجعك فسمي الله ثلاثا وثلاثين، واحمدي ثلاثا وثلاثين، وكبري أربعا وثلاثين، فهي خير لك من خادم"، قالت "رضيت عن الله وعن الرسول". [رواه أبي داود]

لقد حفظ الإسلام للمرأة كيانها، وأعطاها قدرتها وقيمتها، فهي الأساس المبني الذي تقوم عليه رفعة الأسرة. قال رسول الله صلى الله عله وسلم "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس" وكان سيدنا عمر بن الخطاب يقول: "اياكم وخضراء الدين فإنها تلد مثل أصلها، وعليكم بذات الأعراق فإنها تلد مثل أبيها وعمها وأخيها" وقال صلى الله عله وسلم "تخيروا لنطفكم فإن النساء يلدن أشباه اخوانهن وأخواتهن". وجعل الإسلام الزوجة الصالحة للرجل أفضل ثروة يكتنزها من دنياه بعد الإيمان بالله وتقواه وعدها أحد أسباب السعادة، وفي الحديث "ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عز وجل خيرا من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله" [رواه ابن ماجة]، وقال عليه الصلاة والسلام: "الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة" [رواه مسلم]، وقال "من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح". [رواه أحمد].

كما أن الإسلام رفع من قيمة المرأة باعتبارها زوجة وجعل قيامها بحقوق الزوجية جهادا في سبيل الله، جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عله وسلم فقالت: يا رسول الله إني رسول النساء إليك، وما منهن امرأة - علمت أو تعلم – إلا وهي تهوى مخرجي إليك، ثم عرضت قضيتها فقالت: الله رب الرجال والنساء وإلههم، وأنت رسول الله إلى الرجال والنساء، كتب الله الجهاد على الرجال، فإن أصابوا أجروا، وإن استشهدوا كنوا أحياء عند ربهم يرزقون، فما يعدل ذلك من أعمالهم من الطاعة؟ قال: "طاعة أزواجهن والقيام بحقوقهم وقليل منكن من يفعله" [رواه الطبراني].[18]

كان ذلك صورة الزوجة في الإسلام وما كان له من تقدير واحترام أعطاه لها دين الإسلام. وقد حفظت الزوجة المسلمة ذلك التقدير بما تقوم به ازاء زوجها وأولادها من العناية والرعاية، فاستحقت بذلك لقب الشرف الأبدي. الزوجة المسلمة بقلبها العامر بالإيمان وتقوى الله، بعيدا عن جحود زوجة الغرب الذي يدعي الحضارة.

ولا نترك الزوجة في الإسلام دون تجسيم لموقف الرسول صلى الله عله وسلم من أخر خطبة له في حجة الوداع في التاسع من ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة، حين أحل الزوجة مكانها في قلب زوجها فقال "يا أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقا، إنما النساء عندكم عوان، لا يملكن لأنفسهن شيئا، اتخذتموهن بأمانة الله فاتقوا الله واستوصوا بهن خيرا، ألا هل بلغت؟ اللّهم اشهد!".[19]

ثالثا: الأنثى أما في الإسلام،

إن التاريخ لا يعرف دينا أو نظاما كرّم المرأة باعتبارها أما، وأعلى من مكانتها مثلما جاء به دين محمد صلى الله عله وسلم، الذي رفع من مكانة الأم في الإسلام وكرّمها كل التكريم، وقدسها كل التقديس فقد قال المصطفى صلوات الله عليه "الجنة تحت أقدام الأمهات"، وجعل برها من أصول الفضائل، كما جعل حقها أعظم من حق الب لما تحملته من مشاق الحمل والولادة والإرضاع والتربية، وهذا ما يقره القرآن ويكرره في أكثر من سورة ليثبِّته في أذهان الأبناء ونفوسهم.

ومن أعظم الأدلة على مكانة الأم في الإسلام الحديث النبوي الشريف الذي يروي قصة رجل جاء إلى النبي صلى الله عله وسلم يسأله: من أحق الناس بصحابتي يا رسول الله؟ قال "امك"، قال ثم من؟ قال "أمك"، قال ثم من؟ قال "أمك"، قال ثم من؟ قال "أبوك". ويروي البزار أن رجلا كان بالطواف حاملا أمه يطوف بها، فسأل النبي صلى الله عله وسلم هل أديت حقها؟ قال: لا ولا بزفرة واحدة"! أي زفرة من زفرات الطلق والوضع ونحوها، وبر الأم يعني: إحسان عشرتها وتوقيرها، وخفض الجناح لها، وطاعتها في غير المعصية، والتماس رضاها في كل أمر، حتى الجهاد، إذ كان فرض كفاية لا يجوز إلا بإذنها، فإن برها ضرب من الجهاد. ومن الأحاديث النبوية أيضا الدالة على مكانة المرأة في الإسلام قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عله وسلم فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك فقال "هل لك من ام؟" قال: نعم، قال: "فالزمها فإن الجنة عند رجليها".

وقد كانت بعض الشرائع تهمل قرابة الأم، ولا تجعل لها اعتبارا، فجاء الإسلام يوصي بالأخوال والخالات، كما أوصى بالأعمام والعمات، ومن الأحاديث الدالة على ذلك أن رجلا أتى النبي صلى الله عله وسلم فقال: إني اذنبت، فهل لي من توبة؟ فقال: "هل لك من أم؟ قال: لا، قال: "فهل لك من خالة؟" قال نعم، قال: "فبرها"، ومن عجيب ما جاء به الإسلام أنه أمر ببر الأم، حتى وإن كانت مشركة، فقد سألت أسماء بنت أبي بكر النبي صلى الله عله وسلم عن صلة أمها المشتركة، وكانت قدمت عليها فقال لها: "نعم، صِلي أمك". ومن رعاية الإسلام وللأمومة وحقها وعواطفها أنه جعل الأم المطلقة أحق بحضانة أولادها، تقديرا لمكانة الأم في الإسلام، وأولى بهم من الأب، حيث قالت امرأة يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينتزعه مني! فقال لها النبي صلى الله عله وسلم "أنت أحق به ما لم تنكحي".

والأم التي عني بها الإسلام كل هذه العناية، وقرر لها كل هذه الحقوق واجب عليها أن تحسن تربية أبناءها، فتغرس فيهم الفضائل، وتبغضهم الرذائل، وتعودهم على طاعة الله، وتشجيعهم على نصرة الحق، ولا تمنعهم من الجهاد، استجابة لعاطفة الأمومة في صدرها، بل تغلب نداء الحق على نداء العاطفة.

ولقد رأينا أمّاً مؤمنة كالخنساء في معركة القادسية تحرض ابناءها الأربعة وتوصيهم بالإقدام والثبات في كلمات بليغة رائعة، وما إن انتهت المعركة حتى نعوا إليها جميعا، فما ولولت ولا صاحت، بل قالت في رضا ويقين: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم في سبيله.[20]

فهذه الأم هي أعظم ما في الوجود، فقد حملتنا تسعة أشهر، نتقلب في أحشائها في ظلمات ثلاث "يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُون".[21] فتقر حركتنا هناك عينها، وتهفو نفسها إلى اللحظة التي تحفها المخاطر، وتختجلها فيها من شتى جوانبها الآلام، وهي تدفعنا إلى نور الوجود، وفسحة الحياة، فإن أي بر لا يؤدي لوادينا حق الشكر، ولا يوفيهما بعض الأجر، ولقد جاء رجل غلى رسول الله يستأذنه في الخروج إلى الغزو، فسأله: هل من والديك أحد حي؟ قال كلاهما فقال صلوات الله وسلامه عليه: ففيهما جاهد، أي أبلغ جهدك في برهما والإحسان إليهما، فذلك يقوم لك عند الله مقام الجهاد في سبيل الله.

والأم هي العطاء هي التفاني، وهي التضحية والبذل دون مقابل، تشقى لإسعاد أولادها، وتكد لأجل راحتهن وتسهر حتى يناموا، وهي بذلك كله سعيدة راضية. أمدها الله سبحانه بصبر من عنده، لا تثور ولا تغضب، وإذا غضبت أو ثارت فمن باب الرحمة عليهم، والرفق بهم حتى في أقصى حالات غضبها نسمع لسان حالها يقول:
أدعو عليه وقلبي يقول يا رب لا لا

والإسلام حين كرم الأم في كتاب الله العزيز، وبلسان رسول البشرية الهادي، فهو يكرم سر الله الأعظم على هذه الرض، السر الذي لا تدركه الأنثى إلا في هذا الدور من أدوار حياتها ف "الجنة تحت أقدام الأمهات"، وهذا ما يلفت الأنظار إلى صور رائعة تبرز في القرآن مزيد ما استهدفت له الأم من شدائد ومشاق، وما وهبت من عواطف كريمة في مراحل حياتنا، قال تعالى " وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ"[22] وقال سبحانه "وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا".[23] ثم تجلو لنا الآية صورة فذة لابن بار فيقول تعالى "وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ 15 أُولَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ۖ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ".[24]

وليس بر الوالدين القيام على شؤونهما في حياتهما فحسب بل يتعدى ذلك إلى ما بعد هذه الحياة، قال مالك بن ربيعة، بينما نحن عند رسول الله صلى الله عله وسلم فجاءه رجل من بني مسلمة فقال: يا رسول الله: هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال: نعم. الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وانفاذ عهدهما، واكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما". والله سبحانه قد شفع الاحسان إلى الوالدين بتوحيده، ثم ضيق الأمر في مراعاة التوصية بهما، حتى لم برخص في أدنى كلمة تنفلت من التضجر مع موجبات الضجر، ومع أحوال لا يكاد يصبر الإنسان معها، قال تعالى "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا".[25] وقد جعل الله شكر الشاكرين لنعمه لا يتم على خير وجوهه حتى يمازجه شكر الوالدين، فقال سبحانه: "أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ".[26]

لقد بلغ البر بالأم حدا كبيرا، وحفل تاريخ الإسلام بصور رائعة، لإبرار بوالديهم، فكان علي زين العابدين يقول "أخاف أن تمتد يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها". وذلك كان يقول حين يجلس مع أمه يأكل فلا يمد يده قبلها إلى الطعام. وورد في الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين في فصل "دعاؤه لأبويه" "اللهم اجعلني اما بهما هيبة السلطان العسوف وأبرهما بر الأم الرؤوف، واجعل طاعتي لوالدي، ويرى بهما أقر لعيني من قدرة الوسنان وأثلج لصدري من شربة الظمآن، حتى أوثر على هواي هواهم، وأقدم على رضاي رضاهما، واستكثر برهما وإن قل، واستقل بري بهما وإن كثر؛ اللهم وما تعديا علي فيه من حق، أو قصر بي عنه من واجب، فقد وهبته لهما، وجدت به عليهما، ورغبت إليك في وضع تبعته عنهما، فإني لا أتهمهما على نفسي، ولا استبطئهما في بري، ولا أكره ما تولياه من أمري". ويقابل هذا الجانب المضيء من بر الوالدين صورة قاتمة لأبناء عميت قلوبهم عن الحق، وجحدوا أعظم نعم الله سبحانه، فعقوا أمهاتهم، ففي السنة أن علقمة كان يعاني سكرات الموت، وأصحابه يلقنونه الشهادة فلا ينطق بها لسانه، فأخبروا الرسول بخبره، فسأل أمه عنه، فذكرت صومه وصلاته وعبادته، فقال صلى الله عله وسلم : ما عن هذا سألتك، ولكن كيف بره بك؟ فقالت يا رسول الله إني عليه ساخطة واجدة، فقال صلى الله عله وسلم لأصحابه، غضب أمه عليه عقد لسانه عن لا اله إلا الله، ايتوني بحطب أحرقه، وكان لرسول عليه السلام يريد أن يحرك فيها عاطفة الأم عاطفة الإحسان والغفران، فقالت: ابني وحشاشة قلبي تحرقه يا رسول الله، فبين لها أن لنار مثواه إلا أن ترضى عليه، فأشهدت الله ورسوله من فورها أنها عفت عنه، فعاد الصحابة إلى علقمة، فسمعوه يفضي بالشهادتين لسانه، وقال صلى الله عله وسلم: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار.

إن الأحداث الرهيبة لهذه القصة، تجسم العقوق من ابن تقف منه أمه هذا الموقف، لا يمكن لأم أن تقف كهذا الموقف ما لم يكن عقوق ابنها بلغ حدا حجب معه أقدس عاطفة سماوية، عاطفة الأم.
فأين إذن، يا الهي طول شغلها بالتربية؟ وأين شدة تعبها في الحراسة والرعاية؟ وأين تضيقها على نفسها للتوسعة على أولادها؟

حفل التاريخ الإسلامي بقصص أمهات عظيمات خلدهن التاريخ، وتناقلت الأجيال أخبارهن، وأكتفي هنا بذكر واحدة من هن هي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ فهي الأم العظيمة التي نقلت صورة تفخر بها كل الأمهات، فقد دفعت ابنها عبد الله بن الزبير إلى الشهادة، بعد أن دانت له العراق ولحجاز واليمن ثماني سنين. وتمت له أمرة المؤمنين، ثم لم يلبث أن انتقص منه عبد الملك العراق، ورماه بالحجاج الذي لحق به حتى ألجأه إلى مكة. واشتد إوار الحرب بينهما، حتى دخل على أمه يستلهمها الرأي فيما يعد به الحجاج ويمني، أو في مواصلة الجهاد. فقالت له "يا بني إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح" في كلمات وضاء كلها غيمان وتضحية. وتم تنكيل الحجاج بابن الزبير فسلج جلده وحشاه تبنا وعلقه، والحجاج ينتظر أن تتوسل أسماء إليه فينزل ابنها المعلق. كل ذلك وأساء ثابتة بالإيمان، ولم تزد على قولها للحجاج: أما آن لهذا الراكب أن يترجل؟

لقد بلغ الإسلام المدى في تكريم المرأة، فجعل لها حضانة أولادها حين تفترق عن زوجها، ثم لأمها قبل أن يجعلها للزوج أو للنساء من أهله. واشترط لمصلحة الأولاد في الحضانة شروط الحرية والبلوغ والعقل والقدرة على صيانة الصغار وتربيتهم، وان تكون مأمونة في سيرتها... وأسقط حق الفاسق الماجن في حضانة البت الصغيرة، على حين لم يسقطها عن الأم غير المسلمة بالنسبة للولد المسلم، إلا إذا أصبح يفهم معنى الدين، ويخشى عليه أن يألف غير دينه.

كما قد حرص الإسلام على استقلال شخصية المرأة على عكس ما هي عليه في ظل الحضارة المادية والنور الصناعي في أوربا وغيرها.

يقول سيد قطب "وحسب الإسلام ما كفل للمرأة من مساواة دينية، ومن مساواة في التملك والكسب، وما حقق لها من ضمانات في الزواج بإذنها ورضاها دون إكراه ولا اهمال" وفي مهرها "فآتوهن أجورهن فريضة" وفي سائر حقوقها الزوجية؛ زوجة أو مطلقة "فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، "وعاشروهن بالمعروف".[27]

كان ما تقدم جانبا يسيرا من صورة الأنثى في الإسلام وتبيانا لدورها المهم في الأسرة. فهي العضو الفعال في أمة قال فيها سبحانه "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر".

الهوامش
[1] - التكوير، الآيات 8-9،
[2] - النساء، الآية 4،
[3] - النساء، الآية 11،
[4] - المرأة في الاسلام بنتا – زوجة – أما، ليلى حسن سعد الدين، ص، 7،8.
[5] - صحيح مسلم والبخاري وغيرهما،
[6] - رواه أبو داود،
[7] - رواه البخاري ومسلم،
[8] - قبسات من نور النبوة في تعامل النبي مع بناته وأحفاده، عبد الصمد الخزروني.
[9] - البقرة، الآية 186،
[10] - البقرة الآية 226،
[11] - الطلاق الآية 2،
[12] - الروم الآية 20،
[13] - النساء الآية 35،
[14] - النساء الآية 127،
[15] - المجادلة الآية 1،
[16] - المجادلة الآية 1،
[17] - الأحزاب الآيات 28-29،
[18] - مقال: المرأة باعتبارها زوجة، يوسف القرضاوي، موقع اسلام ويب،
[19] - المرأة في الاسلام بنتا – زوجة – أما، ليلى حسن سعد الدين، مصدر سابق. ص، ص، 11، 15، (بتصرف)،
[20] - مكانة الأم في الإسلام.. قصص وأحاديث نبوية، بوابة الأهرام الإلكترونية، (بتصرف).
[21] - الزمر الآية 7،
[22] - لقمان الآية 13،
[23] - الأحقاف الآية 14،
[24] - الأحقاف الآيتين 14-15،
[25] - الإسراء الآيات 23- 24،
[26] - لقمان الآية 13،
[27] - المرأة في الاسلام بنتا – زوجة – أما، ليلى حسن سعد الدين، مصدر سابق. ص، ص، 18، 19، 20، 21، (بتصرف)،
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق