موقع ومكانة المرأة في المجتمع الصحراوي
هناك رأي شائع لدى العامة، خاصة من لدن غير الصحراويين، يرى أن المرأة الصحراوية في المجتمع الحساني تعيش في مرتبة اجتماعية محترمة تجعلها سيدة فيه، لكن الممارسة العلمية حسب "غاستون باشلار" ترى أنه لكي نقف على حقيقة ما، لا بد من القطيعة نهائيا مع الرأي قطيعة ابستيمولوجية باعتباره عائقا ابستيمولوجيا. ولذلك لا بد أن نتجاوز هذا الرأي الشائع، وأن نبحث، وبشكل مفكر فيه، في المكانة الحقيقية التي تعيشها المرأة داخل المجتمع الصحراوي.
إن الارتكاز على تصور الأنثروبولوجي الفرنسي "جون بيير مونييه" الذي اعتبر أن انخراط الباحث السوسيولوجي في المجتمع الذي يعيش فيه يشكل له معرفة جزئية أولية حول الموضوع المبحوث فيه، فانطلاقا من تفاعله الدائم به سيجعل من الذات منطلقا لتأسيس العلمية. وعلى هذا الأساس فإن ما سأصل إليه من نتائج بخصوص وضعية المرأة في المجتمع الحساني ليست مبنية على بحث ميداني، اعتمد التقنيات الميدانية والعلمية المعتمدة في علم الاجتماع، بقدر ما هو توطئة تنهل من الفلسفة والممارسة النظرية السوسيولوجية.
باعتباري منخرطا في المجتمع الصحراوي وذاتا فاعلة ومنفعلة به، فإنني أقترح فرضية بخصوص وضعية المرأة الصحراوية مفادها أن ما تعيشه من مستوى اعتباري لا يعدو كونه وضعية مزيفة تجعل الكثير يتوهم أن للمرأة الصحراوية فعلا دور في هذا المجتمع، فإلى أي حد يمكن التسليم بهذه الفرضية؟
لا شك أن تحرير المرأة يقتضي جعلها ذاتا واعية ومفكرة وقادرة على الاختيار بحرية، بالإضافة إلى النظر إليها على أنها ذات قادرة على تحمل المسؤولية الوجودية، ولا يحق، بأي شكل من الأشكال، أن نميز بينها وبين الرجل. إن تحرير المرأة هو انتفاء للحواجز الجاهزة التي يفصل بها المجتمع بين الجنسين، وجعلها متكافئة مع الرجل في أداء الوظائف الاجتماعية. لكن وبالنظر إلى المرأة الصحراوية فإن اشتغال آلية التنشئة الاجتماعية يستهدف من الأساس التمييز بين المرأة والرجل على عدة مستويات سبق أن حددها السوسيولوجي "غي روشيه" باعتبارها المستويات التي تستهدفها التنشئة الاجتماعية في كل مجتمع، في قوله: "والنتيجة الطبيعية للتنشئة الاجتماعية هي إنتاج تطابق كاف في طرق العمل والتفكير والإحساس، لدى كل عضو من الجماعة" بناء على هذا يمكننا الحديث عن ثلاثة مستويات يتحكم من خلالها المجتمع في المرأة الصحراوية:
المستوى الجسدي:
من الطبيعي جدا في المجتمع الصحراوي أن ينظر إلى جسد المرأة على أنه مشروع، ولذلك عمدت العوائل الصحراوية إلى التفنن في قولبة هذا الجسد من خلال إخضاعه لطرق التسمين (التبلاح) فالأغلبية الساحقة من هذا المجتمع تربط جمال المرأة بمدى بدانتها، ولا تشكل البدانة جمال المرأة فقط، بل تؤثر حتى في تراتبيتها الاجتماعية، بحيث إن البدانة تعكس الوضع الاجتماعي للمرأة. ولذلك تخضع المرأة لبرنامج صارم –وإن قلت حدته مؤخرا- يهدف إلى تسمينها منذ الطفولة. أضف إلى ذلك أن المجتمع يخنق المرأة في هذا القالب الجسدي الجاهز، بحيث قد تتعرض للاستهزاء والاستصغار إن اتسم جسدها بالنحافة. إنها مسلوبة جسديا بحيث تعيش في جسد لا تملكه، أو بالأحرى لم تختره، إذ تحتم عليها التنشئة الاجتماعية قالب جسدي متفق عليه مسبقا عبر ارث اجتماعي ثابت. ومن الطرق الأخرى في إخضاع الجسد ما هو مرتبط بالحلي، فقد كانت المرأة في المجتمع الصحراوي تدفع للتحلي بخلاخيل الفضة، بحيث يجب أن يكون وزن هذه الخلاخيل يصل إلى الكيلو غرام الواحد. وقد كان الهدف من ذلك تثبيت المرأة بحيث تكون مشيتها لا تعبر عن نوع من "الخفة"، فالمرأة يجب أن تمشي على استحياء، دون أن تطلق العنان لجسدها، بحيث إن إطلاق العنان للجسد، والتعبيرات الجسدية التي تظهر انطلاقته، هي شيء مرفوض في المجتمع الصحراوي، فجسد المرأة ملك للمجتمع الذي يتصرف فيه عبر تقنينه وقولبته، فهو نقطة تشترك فيها العائلة بأكملها، بل إن وضعية جسد المرأة لا ترتبط فقط بالتحكم فيه، فهو يشكل شرف العائلة الذي لا يجب أن يدنس. ومن هذا المنطلق فالمرأة في المجتمع الصحراوي لا تمتلك جسدها، بقدر ما هو ملك للعائلة، وفي مرحلة من المراحل، قد يكون ملكا للمجتمع ككل، فمثلا يمكن أن تتغرب المرأة الصحراوية في مجتمع آخر، لكنها ستكون متابعة من أفراد مجتمعها، بحيث ستحاول أن تتجنب كل اتصال بهم، في حال كسرها للقواعد الاجتماعية السائدة في مجتمعها، لذلك يمكن أن يتدخل في الغربة أي شخص ينتمي لمجتمعها لصدها أو توبيخها إذا كانت في وضعية أو مكان أو أتت بفعل لا يتناسب مع قواعد مجتمعها.
على المستوى الفكري:
لا تقف حدود الهيمنة الاجتماعية الذكورية في المرأة في المجتمع الصحراوي في الإطار الجسدي فقط، بل إن المرأة كائن خاضع فكريا وإيديولوجيا، إن المجتمع الذي تعيش فيه المرأة قد رسم لها مسبقا طريقها في الحياة، فعبر التنشئة الاجتماعية يتم غرس قوالب فكرية جاهزة ومحددة سلفا، وعليه يجب أن تسلك المرأة الطريق المنحوت، ولا تخرج عنها. فمراحل الحياة لا يكون للمرأة اختيار كبير فيها، ومثال ذلك أن المجتمع الصحراوي قد حدد خطة نجاح حياة المرأة في الزواج وإنجاب الأولاد، والحصول على منزل يحقق الاستقرار، لتغدو المرأة آلة إنتاج وإعادة إنتاج للأجساد. إن حصر نجاح المرأة في الحصول على زوج يحقق الاستقرار، هو تلخيص لحالة الإحباط الفكري الذي يعيشه المجتمع، هذا المجتمع الذي حصر جميع الانجازات التي يمكن أن تحققها المرأة في مؤسسة الزواج، وحكم على النساء اللواتي أخفقن في الحصول على زوج بالفشل، حتى ولو حققن انجازات مهمة على مستوى الدراسة والعمل. هذا النمط من التفكير الجماعي يجعل المرأة كائنا مستلبا فكريا، يعيش حالة من التوجيه، تنتفي معها إمكانيات الحياة المتعددة، وتغيّب الحرية.
على المستوى الوجداني:
من بين الاشتغالات المهمة في الأدب، خاصة في الشعر باعتباره النمط الأدبي السائد في الصحراء، نجد ما يسمى بشعر "التبراع"، هذا الشكل الأدبي الذي يتيح للمرأة التعبير عن مكنوناتها اتجاه الرجل، والتعبير عن حالات الحب في شكل أدبي شعري. لكنه نمط محصور ضمن نطاق ضيق، تصحبه حالة من التطويق الاجتماعي، ولا يتم العمل به في أي مناسبة. خارج هذا الإطار لا يمكن الحديث عن إمكانية تجعل المرأة تعبر عن مشاعرها المخبوءة اتجاه الرجل، كما لا يسعها الاختيار أحيانا، خاصة في علاقة الزواج، الذي تلعب فيه القبيلة أو العائلة دورا حاسما في اتخاذ القرار. وهذا الأمر جعل العلاقات الوجدانية في الصحراء مسيجة بالكثير من العراقيل والصعوبات، استحالت معها الكثير من الزيجات التي كان من الممكن أن تتمخض عن تجربة حب غالبا ما تحاك خيوطها في الخفاء، وتكون المرأة هي الضحية الأولى في حال انكشف شيء منها. إن المجتمع الصحراوي هو مجتمع لا يعترف غالبا بعلاقات الحب التي تنشأ بين المرأة والرجل، ليس خارج مؤسسة الزواج فحسب، بل حتى داخلها، إذ يعتبر عيبا أي تعبير يدل على هذه العلاقة، فالمرأة لا تستطيع أن تنادي حتى زوجها باسمه الشخصي، لما قد يحمل تلميحا لحبها له. توجد حساسية شديدة في المجتمع الصحراوي اتجاه علاقة المرأة بالرجل حتى في رابطة الزواج، تجعل الكثير من التعبيرات الوجدانية مرفوضة اجتماعيا وبشكل قاطع.
يتضح من خلال ما بيناه، صحة الفرضية التي انطلقنا منها، أي أن وضعية المرأة في المجتمع الصحراوي وضعية مزيفة، تختفي وراءها وضعية تتحكم فيها التنشئة الاجتماعية والهيمنة الذكورية بشكل كبير، ليتبين أن المرأة الصحراوية كائن موجه ومستلب، والأكثر من ذلك لا يعي الاستلاب الذي يعيشه جسديا وفكريا ووجدانيا، فهي ليست سوى نسخة أنتجها المجتمع، وما زال يتحكم فيها بشكل يتجاوز تحكمه في الرجل.