الذات العربية من أزمة الوعي إلى الوعي بالأزمة
كيف انتقل الإنسان العربي من أزمة الوعي إلى الوعي بالأزمة؟
أحمد بطاح
لم تقف حركية الوعي العربي عند الحدود التي رسمها الإسلام وفقط، بل استمرت هذه الحركية في تطورها أيضا عبر الاحتكاك بالثقافة الغربية. وسيعي أخيرا المثقف العربي بعد ردح من الزمن بأن الوعي العربي يمر من أزمة جعلته يتراجع بعد تقدم طويل، ويتقهقر بعد صعود طويل. فإذا كان المجتمع الغربي قد عرف سلسلة من التطورات التي شملت مختلف الميادين منذ ديكارت، أي بداية مشروع الحداثة، وتجاوز المجتمع التقليدي، فإن المجتمع العربي عرف منذ ذلك الوقت بداية الأزمة على مستوى الوعي أولا ثم على كافة المستويات.
شكلت مسألة تطور الآخر وتراجع الذات قضية مهمة جسدت عمق الأزمة المتعلقة بالوعي، فأصبح العقل العربي هو ذلك العقل غير القادر على مسايرة الركب العالمي بعد أن كان حامل زمام تسييره، كما أصبح الإنسان العربي هو ذلك الإنسان الضعيف والتبعي، إنه يعيش أزمة كبرى في تاريخه، إلا أن حديثنا عن هذه الأزمة سيتعلق فقط على مستوى الوعي، منطلقين من سؤال أساسي هو: كيف انتقل الإنسان العربي من أزمة الوعي إلى الوعي بالأزمة؟ ولعل الإجابة عن هذا السؤال تستدعي من الحفر في ثنايا التاريخ بالرجوع إلى حدود بداية الحداثة في أوروبا وذلك لسبب جوهري؛ وهو أن أزمة الوعي العربي بدأت منذ بداية المشروع الحداثي في أوروبا والذي سيرسم الطريق للآخر نحو سلك دروب التقدم، وبالتالي وبشكل منطقي تأَخُّرنا نحن، فالغرب تقدم ونحن تأخرنا. إن أزمة الوعي العربي تتجسد من خلال عدم قدرة هذا الوعي على فهم العالم، على تحليل الواقع، على الرقي بالمجتمع إلى درجات التقدم. يطرح برهان غليون في كتابه مجتمع النخبة مجموعة من الأسئلة تعتبر الإجابة عنها عكسا لهذه الأزمة، وشرحا لها حيث يقول: "هل نجح الفكر العربي، أو بالأحرى هل ساهمت النظريات و التيارات النظرية المختلفة التي ظهرت منذ بداية تدهور استقلالية العالم العربي الإسلامي أمام الغرب في الوصول إلى تكيفات جديدة حية ومستقرة أم أنها أدت بعكس ذلك إلى دهورة موقع ومكانة ووحدة الجماعة العربية الإسلامية التقليدية وعمقت المشكلة بدل أن تساهم في حلها".
لقد شكلت الحداثة كمشروع كوني اتخذ أوروبا كمهد لميلاده نقطة تحول كبرى في تاريخ الآخر،
إن الإجابة عن هذا السؤال الأساسي هي بالطبع التي ستضعنا أمام واقع مستحضر عاشته الذات العربية ولازالت تعيشه إلى حدود الآن، هو واقع التدهور واللاحول واللاقوة أمام التقدم الهائل الذي عرفه الآخر، وبالتالي فإن الأزمة تنخر بعمق في الوعي العربي، وإذا كان الواقع حسب عبد الله العروي يعكس الفكر ويتجسد من خلاله، فإن الخلل الذي ارتبط بتأخرنا نحن هو خلل فكري، نابع من أصول فكرية متعلقة بالوعي، وناتجة عن تراجعه، ومنه فإن إحداث قطيعة مع هذا التراجع، والدخول في نطاق الثورة التي هي بطبيعة الحال دك بنية وإحداث بنية يستدعي الوقوف على هذا الوعي، وتغييره تغييرا جذريا لمحاولة الدفع نحو تكيفات جديدة.
لقد شكلت الحداثة كمشروع كوني اتخذ أوروبا كمهد لميلاده نقطة تحول كبرى في تاريخ الآخر، هذه النقطة قد جسدت بعمق تحولا مس جميع البنى التحتية لهذا الآخر، فالتغيير على مستوى البنية الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، الذي رسمته الحداثة هو بالضبط نتاج تغيير البناء الفوقي، والذي أعتبر ديكارت من وجد مفاتيحه عبر اكتشاف أهمية الذات وتحويل الذات إلى موضوع للمعرفة، إلا أن قيمة هذا الوعي لم تعرفه المجتمعات التقليدية والتي كانت تعيش على مستوى آخر من العلمية يعكس بالضرورة تقليدية هذه المجتمعات، وحدود وعيها ومن بينها المجتمعات العربية. والتي تتشكل أزمة الوعي عندها في كل ما يمكنه أن يكون نقطة التطور عند الآخر، لا سواء في علاقته مع البعد الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو السياسي وحتى الثقافي.
بالفعل أصبح الإنسان العربي يعي تمام الوعي بأن عليه أن يقف موقفا آخر من وضعه، وتاريخيه، وكذا تراثه.
فإذا كانت العقلية العربية والوعي العربي قد عرفا نوعا من الأزمة على مستوى الوعي منذ عصر الحداثة، فإن هذه الأزمة سيتم الوعي بها، وسيدرك الإنسان العربي على أنه ذلك الإنسان الذي يعيش خلف الركب، وأنه ذلك الإنسان المتخلف على كافة المستويات، وبالتالي سوف يطرح نقاشا طويلا مع نفسه وتاريخيه وسيتم الإحساس بالأزمة والوعي بها. وقد أعتبر منتصف القرن التاسع عشر بعد حملة نابليون على مصر بداية الوعي بأزمة الوعي، مما عجل بالذات العربية أن تعيد ترتيب الأوراق، والوقوف موقفا نقديا من الواقع افرز ظهور العديد من المفكرين، يقول برهان غليون في نفس الكتاب: " لم يكف المثقف العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر على الأقل عن نقد الأفكار الاجتماعية التقليدية السائدة التي كانت تظهر وما تزال كعقبة أساسية وأحيانا أولى أمام التطور والتقدم الاجتماعي، ومن هذا النقد الذي يجب فهمه كفحص ذاتي ومستمر للعقل العربي ومسلماته ومسبقاته النظرية سيبرز التحرر الفكري كما لو كان الخطوة الأولى الضرورية لكل تحرر سياسي أو اقتصادي".
إلا أنه رغم انتقال الذات العربية إلى الوعي بأزمتها لم يشكل ذلك تغييرا مهما على مستوى الواقع، فجهاز الدولة باعتباره مكمن الخلل وقيامه على الاستبداد هو الخلل نفسه، لازال مستمرا إلى حدود ألان، في بعده التقليدي، ولو أنه اقتبس مبادئ ونظم الغرب على مستوى الشكل، فمظاهر الأحزاب والانتخابات، والتعليم العمومي، ومؤسسات المجتمع المدني، وغيرها من مظاهر مؤسسة الدولة الحديثة في المجتمع الغربي، موجودة بالنسبة للدولة العربية، لكنها مفرغة من محتواها الرئيسي، ودورها الفعال في السير بالمجتمع نحو التقدم والازدهار.
بالفعل أصبح الإنسان العربي يعي تمام الوعي بأن عليه أن يقف موقفا آخر من وضعه، وتاريخيه، وكذا تراثه. ليس هذا وليد اقتناع مبدئي فكري بقدر ما هو نتاج واقع يملي. فدخول الإنسان العربي في التاريخ الحديث، والعالم المعاصر والرأسمالي قد فرض ضرورة التفكير ومراجعة الأوراق، بل هز التوازن الداخلي للمجتمع التقليدي على حد تعبير برهان غليون.
لقد تمخض عن وعي العقل العربي بروز مشروع نهضوي شكل منعطف تحول كبير على مستوى البنية الفوقية، إلا أن المشروع ارتطم بجدار من الفشل نتيجة عاملين اثنين رئيسيين،
لابد إذن من الإشارة إلى أن العقل العربي أصبح يعي أزمته، وهذا الوعي سينعكس جليا على الثقافة أولا، حيث ستتحول الخطابات الأدبية والفلسفية من التغني بإرث الماضي إلى الوقوف موقفا آخر من هذا الماضي، والبحث عن حل للازمة، عبر توليد خطاب يغوص في الأبعاد الكامنة وراء مشكل الذات العربية، ومثال ذلك تحول الخطابات الشعرية من خطاب كلاسيكي ينطوي على شعارات الإرث إلى خطاب سياسي تمظهر من خلال شعر التفعيلة، خطاب يستهدف ويخاطب العقل العربي من أجل توجيهه إلى المشكل الحقيقي.