المجتمع الصحراوي.. الحاجة إلى الفلسفة - مدونة الفلسفة

المجتمع الصحراوي ... في الحاجة إلى الفلسفة.

إن القبيلة التي ترسم للفرد حدودا معينة واقفة أمام استقلاله كذات واعية حرة ومسؤولة تشكل عقبة كبرى أمام التقدم،

إن مجتمعا تقليديا كالمجتمع الصحراوي، تنخر فيه عادات وتقاليد متأصلة، تكون أحيانا على طرف نقيض للعصرنة والحداثة، لهو مجتمع أشد حاجة إلى التفكير النقدي ومبادئه. ولا شك أن التناقضات التي يعيشها هذا المجتمع على مستوى البنية الفوقية يجب أن يتم فكها على المستوى الفكري للحؤول دون تعمقها وترسخها على المستوى الواقعي.

ومن بين أبرز الظواهر التي تعبر عن تخلف الإنسان الصحراوي نجد في أولها القبيلة (لا أقصد القبلية)، ذلك أن القبيلة لم تكن يوما مؤسسة تعبر عن الحداثة بقدر ما تعبر عن إحدى بنى المجتمع التقليدي. ولذلك فالحسم مع القبيلة هو حسم مع مكون اجتماعي وسياسي تقليدي، وهنا لا يجب أن يتم الأمر بالحسم فقط مع القبلية كفعل وتجلي بل مع القبيلة كمكون ووحدة، التي يمتد تأثيرها على الجانب السوسيولوجي وحتى السيكولوجي للفرد. إن القبيلة التي ترسم للفرد حدودا معينة واقفة أمام استقلاله كذات واعية حرة ومسؤولة تشكل عقبة كبرى أمام التقدم، حيث إن الإنسان مهما بلغ من الثقافة والتحرر يبقى خاضعا لسلطة القبيلة، لتوجيهاتها، لإملاءاتها، لحضورها.. أو مستحضرا إياها ولو في جانب اللاوعي، كما أن القبيلة تجعل المجتمع مكونا من أشخاص مسلوبي الإرادة والكيان، ذلك أن الكيان في القبيلة جماعي، يحدد فيها الوعي الجمعي الوعي الفردي ويطغى عليه، أو بلغة إميل دوركايم يكون شكل التضامن في القبيلة تضامنا آليا، في حين أن المجتمعات الحديثة تفرض بالضرورة حضور الفرد كذات واعية عاقلة ومستقلة، والمجتمع هو مجموعة من الأفراد الذين يحددون مصيرهم بأنفسهم. إن بناء دولة ديمقراطية رهين ببناء فرد مستقل، أو بالأحرى مواطن يحمل شخصية قانونية تعبر عن فهم للحقوق والواجبات، لكن المجتمع الصحراوي لا يعبر عن نشأة سياسية من هذا النوع، فحتى الانتخابات في ظل الدولة الممتدة على الصحراء تطبعها نزعة قبلية، وتتم بصيغة قبلية، بل إن الفرد ينتخب القبيلة ولا ينتخب حزبا يحمل مشروعا سياسيا، وأحيانا ينتخب فردا من القبيلة ينتمي لحزب يختلف تمام الاختلاف مع أيديولوجية الناخب، هذا إن كان على اطلاع بمرجعية هذا الحزب. بالإضافة إلى ذلك نجد عرقلة أخرى تلعبها القبيلة، تتجلى أساسا في بعض الوظائف التي قد يتقلدها إنسان صحراوي، فيفرض عليه أن يديرها قبليا وليس قانونيا، إذ سيكون شخصا غير متخلق (ورخست حسب التعبير الحساني) إن هو ساوى بين الجميع ولم يقض مصالح أبناء عمه ويمنحهم الأولوية ولو على حساب الآخرين. وبناء على كل هذا لا أرى للمجتمع الصحراوي غير تحطيم صنم القبيلة وإحلال محله الفرد كتعبير عن الفردانية، وهذه المهمة الكبرى تقع على عاتق النخبة الصحراوية المثقفة، الحاملة لمشروع وطني تقدمي.

علاقة الإنسان الصحراوي بجسد المرأة أو بالجنس بشكل أدق يظهر لنا حجم التناقض، هذا الجسد المرفوض ظاهريا، المنشود باطنيا.


إضافة إلى ظاهرة القبيلة نجد ظاهرة الدين، ولا يشكل الدين في حد ذاته مشكلة أمام التقدم، بل إن المشكلة تكمن في فهم الإنسان الصحراوي للدين، خاصة حينما يرتبط بثقافة المقدس والمدنس، وبالأولياء والزوايا والأضرحة. وفي هذه النقطة المتعلقة بالدين نجد أكبر تناقض في بنية الوعي الصحراوي، تناقض يعبر عن نوع من الفصام؛ فحينما نستحضر علاقة الإنسان الصحراوي بجسد المرأة أو بالجنس بشكل أدق يظهر لنا حجم التناقض، هذا الجسد المرفوض ظاهريا، المنشود باطنيا. لا يمكن للعلاقات خارج مؤسسة الزواج أن تنشأ وتترعرع في العلن داخل المجتمع الصحراوي، ذلك لأن هذا المجتمع يخاف من العلن، ولكنه لا يرفض هذه العلاقات حينما يكون بينها وبين المجتمع حجاب، إن الأمر هنا لم يعد يتعلق بالدين والله بل إن الإله هو المجتمع. ومن جهة أخرى يظهر التناقض في انفصال الخطاب الديني عن الفعل والسلوك، حيث إن الأغلبية الساحقة من الصحراويين يدافعون عن الدين ويحبونه، يقدسون المقدسات الدينية، يحتفلون بالأعياد... لكن كغيرهم من الشعوب العربية نجدهم في مراتب متأخرة من حيث النظافة العامة والأمانة والمسؤولية في العمل...

لا يمكن حصر مظاهر التخلف في المجتمع الصحراوي (..) إن الأمر يحتاج دراسة سوسيولوجية أعمق للإحاطة بهذا الأمر، لكني أعتقد أن العلاج يكمن في الاهتمام بالتفكير النقدي الذي تؤسس له الفلسفة،

لا تقف حدود تخلف المجتمع الصحراوي عند حدود القبيلة وفهم الدين، بل تتجاوزها إلى العلاقات والمؤسسات الاجتماعية، حيث إن حفل الزواج مثلا في هذا المجتمع غاية وليس وسيلة، يجب أن يقام بناء على شروط معينة تستنزف عائلة العريس والعروس، بما يحضره من مظاهر البذخ والترف ومحاولة تسلق السلم الاجتماعي ولو على حساب سنوات من الدين والتقشف، والأكثر من ذلك أن العرس يجب أن يتم وفق تلك الطقوس حتى ولو على حساب العريسين وعلى حساب سعادتهم واستمرار ارتباطهم، وهو ما يفسر فشل أغلب الزيجات في المجتمع الصحراوي الذي جعل من وسيلة حفل العرس غاية في ذاتها. وفي ارتباط بحفل الزواج نجد ظاهر "ترزيفت" باعتبارها الهدية التي يقدمها الناس في فرح اجتماعي، هذه العادة التي أصبحت مفروضة على كل عائلة، بل أصبحت مفروضة على الأشخاص الذين لم يستقلوا بعد ماديا، حيث نجدها عادة تعكس المرتبة الاجتماعية للفرد وتحدد قيمته، ولا أراها سوى نوع من التعويض النفسي عن الفشل الاجتماعي والسيكولوجي في فرض الذات. وغير بعيد من ترزيفت نجد بذل الجهد في تأثيث المنزل وفق صيحات الموضة، الشيء الذي يعبر عن نوع من الخواء والسطحية والفهم المادي للأمور، وهو ما جعل المجتمع الصحراوي فاشل في بناء الفرد وتكوين الإنسان، إذ إنه مجتمع لا يساعد في إنشاء مفكرين ومثقفين، ذلك أنه لا يهتم بالتكوين العلمي والمعرفي للأفراد، وهذا يفسر خلو أغلب البيوت الصحراوية من المكتبات. لا يمكن حصر مظاهر التخلف في المجتمع الصحراوي في حدود مقال واحد، بل إن الأمر يحتاج دراسة سوسيولوجية أعمق للإحاطة بهذا الأمر، لكني أعتقد أن العلاج يكمن في الاهتمام بالتفكير النقدي الذي تؤسس له الفلسفة، وهذا الأمر متعلق بالنخبة المثقفة التي يجب أن تحرص على إظهار الوجه الحقيقي للمجتمع، ونقده متسلحة بآليات التفكير النقدي، وهو ما يجعلني أقول إن المجتمع الصحراوي بحاجة إلى الفلسفة.

أحمد بطاح، كاتب وروائي،

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق