معيقات التحول الحداثي في المجتمع الصحرواي - مدونة الفلسفة

معيقات التحول الحداثي في المجتمع الصحرواي 

بقلم أحمد بطاح*

إذا كانت أغلب العائلات الصحراوية قد انتقلت للعيش في المدينة، (..) فإن انتقالها على مستوى المكان لم يوازه انتقال على مستوى الفكر والوعي. 

لا شك أن الحديث عن المجتمع الصحراوي هو حديث عن مجتمع انتقل بالأمس القريب من العيش في فضاء البادية إلى العيش في فضاء المدينة، ولعل هذا الانتقال في المكان صاحبه انتقال في الفكر. وإذا كانت المدينة بشكلها المعاصر الذي خلفته الحداثة، وما جاءت به من تحديث على مستوى التجهيز وأنماط العيش والمؤسسات بمختلف أشكالها وغير ذلك، إلا أن استيعاب المجتمع الصحراوي لمفهوم المدينة لم يتم بعد، وربما لم يبدأ بعد؛ ذلك أن العيش في المدينة يفرض بالضرورة امتلاك فكر غير تقليدي، يتماشى مع حداثية المدينة، وبالتالي فإن الانتقال من فضاء البدو إلى فضاء الحضر لا بد أن يصاحبه انتقال على مستوى البنية الذهنية والفكرية وطرق التفكير للمجتمع، بمعنى الوعي الجمعي عموما. لكننا حينما نستحضر تجربة المجتمع الصحراوي لا نكاد نلمس إلا انتقالا طفيفا في هذا الوعي الجمعي، وهو ما يدفعنا إلى طرح السؤال التالي: ما هي معيقات التحول الحداثي في المجتمع الصحراوي؟

مجتمع تقليدي بقناع حداثي

قبل أن نسبر أغوار هذا السؤال، لا بد أولا من كشف دلالة مفهوم الحداثة، وهو ما يحيلنا على ذلك المشروع الفكري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعلمي الذي عرفته أوربا إبان القرن السابع عشر، وتعمق بشكلي جلي وواضح خلال القرن الثامن عشر مع فلاسفة عصر الأنوار. وهو المشروع الذي حرر العقل من دوغمائية الكنيسة ومن استبداد رجال الدين والسياسة، كما قطع مع العقلية التقليدية، وأسهم في إرساء مفاهيم جديدة قائمة على العقلانية العلمية، وأطلق مشروع السيطرة على الطبيعة، وتطويعها لخدمة الإنسان. وفي خضم هذه التحولات على مستوى البنية الفوقية عموما، انعكس ذلك على البنية التحتية، وهو الأمر الذي أسهم في تشكل مدن حديثة تعتمد على الصناعة، عملت على تطوير شبكة المواصلات، والاستفادة من التطور التكنولوجي الهائل الذي عرفه العالم. لكن الحديث عن المدن في الصحراء، قد لا يقودنا إلا للحديث عن مدن صغيرة تشكل مدينة "العيون" أهمها، ذلك لأنها مدن لا تزال تفتقر إلى مقومات وشروط المدينة الحديثة، خاصة في الجانب الثقافي والعلمي، ومن أهم هذه الشروط نجد: نواة جامعية- دور المسرح- دور السينما- شبكة السكك الحديدية، مطارات دولية... إلا أنه تسعفنا الحال أن نصنفها ضمن المدن السائرة نحو الحداثة لما تزخر به من شبكة طرقية ووسائل الاتصال والمواصلات الحديثة ومقاهي عصرية بالإضافة إلى الأسواق الصغيرة الممتازة والفنادق المصنفة.

إذا كانت أغلب العائلات الصحراوية قد انتقلت للعيش في المدينة، كما سبق وأشرنا إليه، فإن انتقالها على مستوى المكان لم يوازه انتقال على مستوى الفكر والوعي. وقد أشرت في مقال سابق لي تحت عنوان "مجتمع تقليدي بقناع حداثي" إلى بنية العقل الصحراوي، والمفاهيم التي تتحكم في هذه البنية، وتبين لي أنها مفاهيم تقليدية في أغلب الأحيان، حيث إن العقل الصحراوي لا يزال يستحضر مفهوم القبيلة والانتماء في تصنيفه وتعامله مع الآخر، بل ما زالت تشكل القبيلة القائمة على فكرة النحن عصب التفكير الاجتماعي والسياسي للإنسان الصحراوي، وهو المعيق الأول الذي يقف أمام الانخراط في مشروع الحداثة القائم على انتفاء فكرة النحن، وإحلال محلها فكرة الأنا.

إن انتفاء الفردانية في المجتمع الصحراوي، وعدم قدرة الفرد على تقرير مصيره بدون تدخل الآخر، وتفكيره دوما في بمنطق الجماعة... هو ما جعل هذا الفرد متشبثا بمفاهيم العقلية التقليدية، وبالتالي عدم القدرة على القطع مع مجموعة من المظاهر التي تعكس تقليدية المجتمع، أهمها معيار التصنيف القبلي في تحديد المستوى الاجتماعي أو الفكري أو السياسي.. للآخر الصحراوي، وهو ما جعل بنية العقل الصحراوي بنية منغلقة ومتقوقعة على ذاتها.

إن تحرير الإنسان الصحراوي رهين بتحرير العقل الصحراوي

إن الدعوة إلى تجاوز مفهوم القبيلة في بنية العقل الصحراوي بمبرر الانخراط في مشروع الحداثة ليست بالضرورة دعوة إلى تفكيك المجتمع الصحراوي، بل هي دعوة إلى تفكيك بنية تفكيره لتقوم على أسس جديدة أكثر صلابة، ذلك لأنه، وبكل بساطة، تشكل فكرة النحن تلك الفكرة التي تتقمصها الأنا باعتبارها مكون من الجماعة، وهذا الشعور بالانتماء إلى النحن هو ما يشكل الهوية النفسية والاجتماعية للأنا على الأقل. لكن عمل التنشئة الاجتماعية في تشكيل المستوى الانفعالي والحس حركي للفرد يجب أن يتوقف في المستوى الفكري، أو في أبسط الإيمان أن نعمل، كمثقفين، على إعادة هيكلته ليقوم على أسس حداثية تعيد الاعتبار للأنا، ونعمل على محو الأساس التقليدي لهذا الوعي الجمعي الصحراوي. والأكيد أن مهمة بناء عقلية جديدة لهذا المجتمع الصحراوي ليست بالمهمة السهلة أبدا، فقد تستمر سنوات طويلة نظرا لضعف قنوات التواصل بين الفئة المثقفة والمجتمع الأهلي، ولذلك أرى في هذه النقطة أن الشعر والرواية والكتابة الأكاديمية في الصحراء أصبحوا مطالبين بشكل ملح بالعمل على تقويض الأسس التقليدية، ورسم طريق نحو تحرير العقل، وذلك بالاشتغال على التناقضات والطابوهات التي تستشري في هذا المجتمع، وما زالت محاطة بهالة من التقديس.

إن تحرير الإنسان الصحراوي رهين بتحرير العقل الصحراوي، ذلك لأن الانخراط في مشروع الحداثة، من أجل تكوين مجتمع حداثي قائم على مبدإ احترام الإنسان كذات واعية ومفكرة وأخلاقية، وبالتالي دفعه إلى تقرير مصيره دون تدخل عامل القبيلة والعائلة وغير ذلك، رهين بالقطع مع الذهنية التقليدية التي تعمل على زجر الأنا وكبح جماحها في سبيل الوعي بذاتها. وعليه فإن معيق التحول الأول فكري بالأساس، لم تفهم بموجبه بنية العقل الصحراوي ضرورة القطع مع المفاهيم التقليدية، والإحلال محلها مفاهيم جديدة، قائمة على الانتصار للأنا، وتحرير العقل من دوغمائية القبيلة.

لم تقف حركية العراقيل والمعيقات التي تواجه العقل الصحراوي للانخراط في مشروع الحداثة عند الحدود التي رسمتها القبيلة، بل تحضر عراقيل أخرى؛ ولعل أهمها أيضا المعيق النفسي-الاجتماعي، هذا المعيق الذي جعل من الذات الصحراوية ذاتا موزعة بين الحنين إلى الماضي التقليدي، والتغني بكل العوالم التي يخلقها هذا الماضية، والتشبث بنمط العيش التقليدي عبر الرجوع دوما إلى هذا الفضاء التقليدي الذي تجسده البادية، وهو ما جعل أغلب العوائل الصحراوية التي تقطن المدن تعود على الأقل مرة كل سنة للبادية، وإن لم تمتلك هناك منزلا بسيطا فعلى الأقل تمتلك خيمة. أما المستوى الآخر فيتمظهر في محاولة الظهور بمظهر حداثي يتماشى مع موجة التحديث على المستوى الشكلي، من خلال محاولة امتلاك آخر طراز من الهواتف الذكية، وامتلاك سيارة فخمة، ومنزل بأثاث عصري.. وغير ذلك من مظاهر الحداثة.

...توجد أشياء هي التي تربطنا بالماضي بسلسلة من حديد، دون أن تتركنا لكي نركب قطار التطور..

هذا التوزع بين المستويين التقليدي والحداثي هو ما جعل الذات الصحراوية تعيش نوعا من الفصام في الشخصية، هذا الفصام الذي سبق وعبرت عنه في تدوينة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، تقول التدوينة: "يركب سيارة ألمانية الصنع من نوع ميرسيدس بنز، يرتدي سروال جينز من نوع ديزل، وقميص بولو، وحذاء ملمعا من زارا، وساعة من نوع روليكس، ثم يضع رجلا على رجل في مقهى مجهز بشاشات LED وينفخ دخان سيجارته فليب موريس المالبورو ثم يسألك في الأخير: من أي قبيلة أنت؟؟؟".

أما المعيق الذي سأتحدث عنه في الأخير، فهو المعيق الاقتصادي، ولذلك سأحاول كشفه متسلحا بمفاهيم المادية التاريخية. والأكيد أن المجتمع الصحراوي أيضا هو مجتمع طبقي، حتى لو تجاوزنا التصنيف الذي يجعل من "البيضان" في أعلى الهرم ثم يتبعهم ب"المعلمين" أو الصناع وأخيرا ب"الحراطين" أو العبيد فإننا سنقع في التصنيف الماركسي للنمط الرأسمالي القائم على الطبقة البورجوازية والطبقة البروليتارية، وحتى إن لم تكتمل شروط الطبقتين في المجتمع الصحراوي، ذلك لأن ماركس لا يصنف الطبقة على المستوى الاقتصادي فقط، بل إن الطبقة هي طبقة فكرية، وإذا نحن حللنا ذهنية الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة في الصحراء، لا نكاد نجد تمايزا على مستوى التفكير، ناهيك عن كون الاقتصاد في الصحراء لا يقوم على المعامل والمصانع والأراضي المزروعة، بل إن المجتمع الصحراوي نظرا لبنيته المعقدة يحتقر العمل، خاصة إن كان عملا تحت رعاية رب، وبالتالي يصعب الحديث عن طبقة عاملة صحراوية، ومن جانب آخر يشكل الوضع السياسي القائم في الصحراء الذي ما زال يعرف نزاعا بين المملكة المغربية وجبهة البوليساريو، عاملا أساسيا في صعوبة، إن لم نقل استحالة، تشريح المستوى الاقتصادي في الصحراء. وبالتالي وجب استحضار مفهوم "الريع" في هذا الإطار، هذا العامل الذي أدى إلى نشوء طبقتين في الصحراء، طبقة غنية على المستوى المادي، لكنها فاشلة على المستوى الفكري. وطبقة فقيرة تشكل السواد الأعظم في المجتمع الصحراوي، ومن رحم هذه الطبقة ولدت الطبقة المثقفة حتى وإن كانت ما زالت تخبط خبط عشواء في رسم خارطة طريق لهذا المجتمع، وذلك لأنها طبقة لا تزال تعيد المفاهيم التقليدية دون تفكيكها ونقدها، وبالتالي فهي تقع في دوامة الإنتاج وإعادة الإنتاج.

ختاما لهذا المقال لا يسعني إلا أن أقول إن المعيقات التي تقف أمام المجتمع الصحراوي في طريقه نحو الحداثة متعددة وكثيرة، وما فعلته الآن هو تسليط الضوء على بعضها، لعل وعسى أن تعمل النخبة الملقى على عاتقها السير في هذا النهج على تفكيك المعيقات الأخرى، وأن لا تقع في دوامة مغازلة التاريخ، والتغني بالتقاليد البالية، بل يجب أن تكشف للمجتمع الأهلي أن ليس كل ما يعمل على الحفاظ عليه بالضرورة ينفعه، إنما توجد أشياء هي التي تربطنا بالماضي بسلسلة من حديد، دون أن تتركنا لكي نركب قطار التطور، والتطلع إلى مستقبل زاهر، تنصهر فيه المشاكل التي نتخبط فيها حاليا، وبالتالي وجب الحسم معها نهائيا، ولعل أهمها هو مفهوم القبيلة.

أحمد بطاح*؛ كاتب وروائي مغربي شاب، أستاذ مادة الفلسفة سابقا، ومستشار في التوجيه التربوي حاليا مديرية الداخلة واد الدهب، له العديد من المؤلفات؛ منها؛ رجل لا أثر له يسكنني، الحب الآتي من الشرق،..

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق