العلوم الإنسانية بين التفسير والفهم الثانية باكالوريا اداب

مسألة المنهج في العلوم الإنسانية، الثانية باكالوريا

المجال الإشكالي: المعرفة/الابستمولوجيا -المفهوم: العلوم الإنسانية

مدخل عام دلالات وإشكاليات المفهوم

يشير مفهوم العلوم الإنسانية إلى مجموع العلوم التي  تدرس الفعل الإنساني في مختلف تجلياته النفسية، والاجتماعية، الثقافية ... كعلم النفس، علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، والتاريخ ... علوم تسعى لبناء معرفة علمية بخصوص الظواهر الإنسانية، وذلك على غرار ما حققته العلوم الحقة من نتائج بخصوص الظواهر الفيزيائية، مستلهمة منها الأليات المنهجية التي مكنتها من بلوغ الدقة والموضوعية في التعامل مع موضوعاتها، فهل ستنجح العلوم الإنسانية في مسعاها، بحيث تدرس الظواهر الإنسانية كما تدرس الظواهر الطبيعية، أم أن للظواهر الإنسانية خصوصياتها ما يجعل من دراستها موضوعيا أمرا مستعصيا؟ وكيف يتعامل الباحث في مجال العلوم الإنسانية مع موضوعاته؟ ما هو المنهج الذي يعتمد عليه، نفس منهج العلوم الحقة (التفسير) أم منهج خاص ومغاير(الفهم)؟ وما هو النموذج العلمي الذي تقتدي به في سعيها لتحقيق العلمية؟

المحور الثاني: العلوم الإنسانية بين التفسير والفهم:

تأطير إشكالي:

إلى جانب مشكلة الموضوع في العلوم الإنسانية، عاشت هذه الأخيرة مشكلة المنهج، والتي جعلتها تتوزع إلى طريقين، الأول يدعو إلى منهج التفسير، والثاني يدعو إلى منهج الفهم. ونقصد بالتفسير هو إدراك للعلاقة بين الأسباب والنتائج في دراسة موضوع معين، ومعرفة القوانين التي تحكم هذه العلاقة، وذلك بناء على كونها علاقة حتمية ضرورية. والتفسير في الأصل منهج علمي خاص بالعلوم الحقة، بوصف ظواهرها تقوم على علاقات حتمية بين الأسباب والنتائج، وبالتالي فالتفسير موضوعي في بنائه، ولا تدخل فيه الذات. أما منهج الفهم فهو عكس ذلك، حيث يكون حضور الذات حضورا قويا كطرف ثالث بين السبب والنتيجة، حيث لا يمكن فهم العلاقة بينهما إلا بتدخل الذات وقدرتها على التأويل، وعلى وضع الموضوع المدروس في سياقاته الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية ... وبالتالي فالفهم منهج ذاتي. بناء على هذا التقابل فهل العلوم الإنسانية تقوم على التفسير أم تقوم على الفهم؟

مطلب التحليل: تصور كلود ليفي ستراوس: نص؛ العلوم الإنسانية بين التفسير والتنبؤ

يرى ستراوس أن العلوم الطبيعية استطاعت أن تصل إلى نتائج مهمة لكونها استطاعت الفصل بين منهج التفسير ومنهج التنبؤ، حيث نجد بعض العلوم كعلم البيولوجيا يعتمد على منهج التفسير في دراسة ظواهره، ويعطي تفسيرات دقيقة لهذه الظواهر كما فعلت الداروينية، في حين نجد علوما أخرى اعتمدت على منهج التنبؤ، واستطاعت أن تعطي تنبؤات صحيحة حول ظواهرها كما هو الحال في علم الأرصاد الجوية. أما العلوم الإنسانية فقد أضاعت الطريق بين التفسير والتنبؤ، لا هي أعطتنا تفسيرات دقيقة لظواهرها، حيث بقيت تفسيراتها فضفاضة، ولا هي أعطت لنا تنبؤات صحيحة. ولكن ذلك لا ينزع عن العلوم الإنسانية قيمتها العلمية، فحتى لو لم تعط معرفة علمية خالصة، فعلى الأقل ستعطي معرفة عليمة نافعة.

مطلب المناقشة: تصور فيليهلم دلتاي: نص؛ الفهم في العلوم الإنسانية

يرى دلتاي أن العلوم الإنسانية تختلف عن العلوم الطبيعية، ولتبيان هذا الاختلاف سماها بالعلوم الروحية، ولا بد لهذه العلوم الروحية أن تبحث لها عن منهج يلاءم خصوصية ظواهرها، لا أن تعتمد على النقل الحرفي لمنهج العلوم الطبيعية. كما أن الاختلاف بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية يتجلى في الاختلاف بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية، فالظاهرة الطبيعية ظاهرة معزولة وخارجية، وقابلة للتجزيء، بينما الظاهرة الإنسانية ظاهرة كلية وشمولية تعبر عن التجربة الداخلية للفرد، إنها غير مستقلة عن الإنسان. وعليه فإن العلوم الإنسانية تفهم ظواهرها، بينما العلوم الطبيعية تفسرها.

تصور مونرو: الفهم كمنهجية تأويلية

وتأكيدا لفكرة "دلتاي" يقول "مونرو" في كتابه "الوقائع الاجتماعية ليست أشياء": "إننا نفهم الحوادث بالبداهة. فنحن مثلا، ندرك بشكل بديهي – أن الشخص كما يقول "ياسبرز،" الذي تم الاعتداء عليه يتملكه الغضب-. وإذا لمحنا شخصا يرفض أمرا ما، تبيّنا رفضه من إيماءته." هكذا يبرز "مونرو" أهمية الفهم كمنهجية تأويلية تتأسس على المعرفة البديهية المباشرة.

تركيب ختامي للمحور:

شكل المنهج في العلوم الإنسانية نوعا من الإحراج بالنسبة للابستيمولوجيين، حيث إن تحقيق العلمية المنشودة لا بد أن يمر عبر المنهج العلمي الذي تشتغل به العلوم الحقة، هذه الأخيرة التي لها باع طويل في القدرة على الفصل بين الذات والموضوع، وتناول المواضيع الطبيعية تناولا علميا. لكن، وفي المقابل، فإن المنهج العلمي في العلوم الحقة سيفرغ الظاهرة من خصوصيتها الإنسانية، خاصة وأننا أمام ظاهرة تتسم بالوعي والتعقيد وعدم الثبات.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق