المحور الثاني معرفة الغير ممكنة أم غير ممكنة هوسرل بيرجي شيلر

مجزوءة الوضع البشري درس الغير؛ المحور الثاني: معرفة الغير

تأطير إشكالي للمحور:

شكلت معرفة الغير قضية أساسية داخل مفهوم الغير، وهي وإن كانت قضية ابستيمية مطروحة بشدة داخل العلوم الإنسانية، بوصفها تحقيقا للمعرفة بالإنسان، فهي تأخذ شكلها الوجودي من خلال اعتبار الغير ذاتا أخرى لا موضوعا للمعرفة، ذاتا تشبهني أو تختلف عني. ونعني بالمعرفة عموما هي العلاقة الجدلية بين الذات العارفة وموضوع معرفي معين، بموجبها تخرج الذات من ذاتها اتجاه هذا الموضوع، ثم تعود مغتنية بمعارف وأفكار جديدة عنه. وإذا كان الموضوع هنا هو ذات أخرى، فإن الأمر يتخذ بعدا يتسم بالتعقيد، يجعلنا أمام تصوريين، الأول يرى أن معرفة الغير ممكنة، والثاني يرى أنها معرفة صعبة أو غير ممكنة، وعلى أساس هذا التقابل نطرح الإشكال التالي:

هل معرفة الغير معرفة ممكنة أم غير ممكنة؟ وما حدودها؟

موقف إدموند هوسرل: تحليل نص البينذاتية أساس معرفة الغير

يرى هوسرل أن معرفة الغير معرفة ممكنة عن طريق القول بمبدأ التشابه، فالذات تعيش مع الغير في نفس العالم، ولها وجود يشبه وجود الغير، فالأنا روح وجسد مثلما هو الغير، ولذلك فالذات تدرك الغير ليس فقط بوصفه موضوعا، بل بوصفه ذاتا لها نفس خصائص الذات، وعن طريق التقمص الحدسي تتوحد الذات حدسيا مع الغير، وتضع نفسها مكانه، وتعيش نفس تجاربه حدسيا، في إطار ما يسميه هوسرل البينذاتية، التي يصبح فيها الغير هو أنا والأنا هو الغير، وهذا التذاوت بين الذوات، في العالم المعيش، هو ما يجعل معرفة الغير ممكنة.

موقف "ماكس شيلر"؛ تحليل نص إدراك الغير بوصفه كلا

يؤكد "شيلر" أن معرفة الغير عملية ممكنة وذلك بالربط بين البعدين الظاهري (التعبيرات الجسدية) والباطني (الانفعالات والعواطف)، إذ لا يمكن الفصل بينهما جسد وروح، بحيث أن الأول يدركا خارجيا، والثانية يدرك داخليا، إن معرفة بهذا الشكل غير ممكنة لأن الغير يدرك (يعرف) باعتباره كلا لا يقبل القسمة. "إننا ندرك فرح الغير من ابتسامته، كما ندرك همومه وألمه من دموعه وخجله من احمرار وجهه." فالتعاطف مع الغير والغوص إلى أعماقه من خلال الترابط القائم بين التعبيرات الجسدية والمشاعر الباطنية يجعل معرفته عملية ممكنة.

لكن هل معرفتنا بالغير بمشاعره وعواطفه معرفة يقينية أم أنها تقريبية فقط، أم أنها معرفة غير ممكنة بالأساس؟

موقف "مالبرانش"؛  تحليل نص معرفة الغير معرفة غير يقينية

إن معرفة الغير من طرف الأنا ممكنة، لكنها معرفة تخمينية تقريبية  وليست يقينية، ف "من كل مواضيع معرفتنا، لم يبقى لنا سوى أنفس الناس الآخرين والعقول الخالصة؛ وإنه لمن الظاهر أننا لا نعرفها إلا عن طريق التخمين". لأن الأنا لا يستطيع أن ينفذ إلى أعماق الغير لإدراك حقيقة عواطفه ومشاعره وانفعالاته الباطنية، لذلك فهو (الأنا) يقوم بعملية إسقاط، أي يسقط عليه ما يشعر به انطلاقا من مبدأ المماثلة. لذا يؤكد "مالبرانش" على نسبية واحتمالية معرفة الأنا بالغير.

موقف غاستون بيرجي: تحليل نص عزلة الأنا

يرى بيرجي أن معرفة الغير غير ممكنة، انطلاقا من مبدأ الاختلاف، ولأن بينه وبين الأنا جدار سميك لا يمكن اختراقه، وهكذا فتجربة الأنا الذاتية معزولة وغير قابلة أن تدرك من طرف الغير، فالأنا يعيش تجربة حميمية مع الذات، تحول دون تحقيق أي تواصل بينه وبين الغير، فلا يمكن للآخرين اختراق وعيي، كما لا يمكن نقل تجربتي الداخلية لهم، حتى ولو تمنيت ذلك. لأنني أشعر بالعزلة، وأعيش في قلعة منيعة يستعصي على الغير اقتحامها. وهذه العزلة متبادلة بين الأنا والغير، فمثلما أن أبواب عالمي موصدة أمامه، كذلك أبواب عالمه موصدة أمامي. ويتبين هذا من خلال تجربة الألم مثلا، فعندما يتألم الغير ويبكي، أواسيه وأشاطره المعاناة، غير أنني لا يمكن أبدا أن أعيش نفس الألم، لأنه تجربة شخصية خاصة به وحده. هكذا فالبرغم من سعي الإنسان الدءوب نحو تحقيق التواصل مع الغير كحاجة ملحة داخله، فإن الغير يظل سجينا في آلامه، ومنعزلا في ذاته، ووحيدا في موته.

تركيب ختامي للمحور:

يبقى الإنسان مختلفا عن الظواهر الطبيعية، مما يجعل معرفته متسمة بالتعقيد، حيث إننا أحيانا نحس بأنها معرفة ممكنة، من منطلق التشابه بيننا وبين هذا الغير، ومن منطلق عيشنا في العالم نفسه، وعن طريق تقاسم التجارب، نتعرف على الغير كذات أخرى. لكن، وفي المقابل، نجد أن الغير كهف عميق لا يمكن سبر أغواره، وأن تجربته الوجودية تجربة متفردة ومنعزلة عن الذات، مما يجعل بيننا وبينه جدارا سميكا لا يمكنه تجاوزه، لتبقى معرفة الغير غير قابلة للتحقق. ويمكن القول عموما إن معرفة الغير معرفة نسبية، يمكن أن تتحقق أحيانا، ويمكن أن لا تتحقق في كثير من الأحيان.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق