درس مفهوم الغير؛ المحور الأول؛ وجود الغير،
مفهوم الغير، دلالة المفهوم وإشكالياته:
يعتبر مفهوم
الغير من أحدث المفاهيم التي ناقشتها الفلسفة، وذلك راجع لكون الفلسفة لم تكن تركز
على الإنسان إلا بوصفه ذاتا وأنا مفكرة، في مقابل وجود موضوعي للغير، خاصة في
التصور الديكارتي الذي لم يكن يستحضر الغير إلا بوصفه موضوعا قابلا للشك. وقد شكلت
فلسفة فريديريك هيغل، خاصة من خلال جدلية السيد والعبد منعطفا حاسما في التصورات
الفلسفية لمفهوم الغير، حيث نظر لهذا الغير على أنه ذات تمتلك وجودا ضروريا ومستقلا،
وجودا يقابل وجود الأنا. ولم يأخذ النقاش في هذا المفهوم مساره القوي إلا مع
الفلسفة المعاصرة، خاصة مع التيار الوجودي، حيث اعتبر سارتر الغير هو ذلك الأنا
الذي ليس أنا، وأيضا التيار الفينومونولوجي حيث يعرف إدموند هوسرل الغير بوصفه
الأنا الذي يشبهني ويختلف عني. والتفكير في مفهوم الشخص يطرح عدة إشكاليات من قبيل:
المحور الأول: وجود الغير: وجود ضروري أم غير ضروري
يشكل وجود
الغير وجودا حتميا في حياة الإنسان، فالإنسان، باعتباره كائنا اجتماعيا، لا يستطيع
العيش بمعزل عن الآخرين، وهذا الأمر يجعله في مواجهة مستمرة مع الغير، يشترك معه
الوجود، مما يجعل الأمر يأخذ شكل إحراج فلسفي، فإما أن وجود الغير وجود ضروري
للذات أو أن وجود الغير يهدد الذات. وبناء على هذا الإحراج يمكن طرح الإشكال
التالي: هل وجود الغير ضروري للذات أم هو تهديد لها؟ أم هو وجود مزدوج؟
موقف مارتن هايدغر، تحليل نص؛ تهديد الغير،
ينتمي هايدغر
إلى المدرسة الوجودية، وقد اعتبر أن الوجود مع الغير يجعل "الموجود هنا"
يقع تحت قبضة الغير، بحيث يعني بالموجود هنا هو الذات في وجودها الخالص. فالوجود
المشترك يفرغ الذات من إمكانياتها، ويسلبها كينونتها، والذات لا تكون مطابقة
لذاتها حينما تكون على نمط الوجود مع الغير. كما أن هذا الغير يمارس عليها هيمنته
الخفية، بل ويمارس علىها ديكتاتوريته في إطار ما سماه بدكتاتورية الهم، مهما
حاولنا التنصل من هذا الغير. فجميع الأنشطة التي يقوم بها الإنسان من مشاهدة
للأفلام أو قراءة للصحف أو السفر أو الذهاب إلى العمل لا يقوم بها إلا لأنه قد وجد
الآخرين يقومون بها، وهذا التماهي مع الغير يفقد الذات كل خواصها وما يميزها،
ويجعلها تذوب في وعاء الوجود، وتصبح شبه الجميع، وكأنها لا أحد.
موقف جان بول سارتر، تحليل نص؛ تجربة الخجل ونظرة الغير،
من منطلق نفس
الاتجاه الوجودي، يرى سارتر أن وجود الغير يحد من إمكانات الذات، ويسلبها حريتها.
فعن طريق النظرة يحولني الغير إلى موضوع ويشيئني، حيث يجعلني موضوعا لأحكامه
القيمية، ذلك أنه حينما ينظر إلي أفقد حريتي، وتكبلني نظرة الغير. ولهذا يقول
سارتر "الجحيم هو الآخرون". إن الغير جحيم بالنسبة للذات. لكن، في
المقابل، يعتبر سارتر أن وجود الغير أيضا ضروري للذات، فلولا وجود هذا الغير لم
تكن لتعي الذات ذاتها، ولم تكن لتتعرف على نفسها بوصفها خجلا أو كبرياء حينما
يُنظر إليها. وبالتالي فإن الغير يلعب دور الوسيط بين الذات وذاتها، إنه مرآة نرى
عليها انعكاس صورتنا، وبفضله نعي حريتنا، ذلك أن سؤال الحرية لا يصبح مهما إلا
بوجود الغير، وعلى ذلك فوجود الغير ضروري للذات وللوعي بالحرية..
موقف: ميخائيل بختين
يؤكد " بختين " حضور الغير
مسألة ضرورية بالنسبة للأنا. وهذا يتجلى بوضوح في قوله: "إنني لا أصبح واعيا
بأناي، و لا أصير أنا ذاتي إلا بانكشافي للغير، وبواسطة الغير. والأفعال ذات الأهمية
العظيمة التي بها يقوم وعي الذات، إنما تتعين في علاقة بوعي آخر (وفي علاقة مع
"أنت"). والقطيعة والعزلة والانكفاء على الذات هي بالسبب الأساسي في
ضياع الذات ." فليس بمقدور الأنا أن يستغني عن الغير، ولا يستطيع أن يصير هو
ذاته بدون الغير، إن الإنسان لا يملك منطقة داخلية يبسط عليها سيادة مطلقة. إنه
يوجد كليّا ودوماً على الحدود مع الخرين، وهو إذ يتطلع في قرارة ذاته، فإنه يتطلع
في عيني الغير أو عبر عيني الغير ... فأنا أتلقى اسمي من الغير، وهذا الاسم يوجد
من أجل الغير.
تركيب عام للمحور
على الرغم من
كون وجود الغير وجودا يهدد الذات ويسلبها حريتها، ويحد من إمكانياتها، ويحولها إلى
موضوع عن طريق التشييء، وعلى الرغم من كونه جحيما يمارس ديكتاتوريته على الأنا،
إلا أن وجوده يبقى وجودا ضروريا للأنا، وجودا لا نستطيع إلا التعايش معه. وبالتالي
فوجود الغير يحمل طابعا ازدواجيا، فهو وجود ضروري من جهة، ويهدد الذات من جهة أخرى.