المحور الأول موضعة الظاهرة الإنسانية بياجي، كونت، باستيان، دوركايم

مسألة العلمية في دراسة الظواهر الإنسانية بين الموضوعية والذاتية

مفهوم العلوم الإنسانية، دلالة المفهوم وإشكالياته:

يعبر مفهوم العلوم الإنسانية عن تلك العلوم التي تدرس الإنسان دراسة علمية، من خلال البحث في الظواهر الإنسانية، وجعلها موضوعا للعلم. وهي مجموعة من العلوم التي ظهرت خلال القرن التاسع عشر، وانفصلت عن الفلسفة، شاقة لنفسها الطريق على أرض العلم، وبعيدا عن التفكير الفلسفي الذي يعتمد على التأمل عوض التقنيات العلمية الموضوعية. لكن ظهور العلوم الإنسانية لم يكن ظهورا سلسا، إذ سرعان ما وجدت نفسها أمام إشكاليتين ابستيمولوجيين، إشكالية الموضوع وإشكالية المنهج، حيث إن جعل الإنسان موضوعا للدراسة من طرف الإنسان نفسه طرح صعوبة موضعة الظاهرة الإنسانية، كما أن جدة هذه العلوم فرض عليها البحث عن منهج خاص بها أو اتباع منهج العلوم الحقة، ما يلقي بنا أمام المحاور التالية:

- موضعة الظاهرة الإنسانية؛

- العلوم الإنسانية بين التفسير والفهم؛

- نموذجية العلوم التجريبية. 

المحور الأول: موضعة الظاهرة الإنسانية

أولا: تأطير إشكالي

نعني بالموضعة هي الفصل التام بين الذات والموضوع، وعدم إقحام الذات ذاتها في الموضوع الذي تدرسه، إنها تحقيق الحياد وعدم الانحياز في تناول المادة المدروسة، بحيث يترك الباحث قناعاته الشخصية وآراءه المسبقة، وتوجهاته الأيديولوجية جانبا، ويعتمد على التقنيات العلمية والموضوعية دون التمركز على ذاته. أما الظاهرة الإنسانية فنعني بها كل ما يصدر عن الإنسان، سواء بشكل فردي أو جماعية، ويتسم بطابع الشمولية والتكرار. وتعتبر الظواهر الإنسانية موضوعا للعلوم الإنسانية، يتم دراستها بشكل علمي، بعيدا عن التأملات الفلسفية. وافترق الابستيمولوجيون بخصوص موضعة الظاهرة الإنسانية إلى تصورين، الأول يرى أنه يمكن موضعة الظاهرة الإنسانية، أي دراستها بشكل موضوعي، والتصور الثاني يقول بصعوبة تحقيق الموضعة، وأن التداخل بين الذات والموضوع يبقى قائم دوما. وبناء على هذا التقابل نطرح الإشكال التالي: هل يمكن موضعة الظاهرة الإنسانية أم لا يمكن ذلك؟ 

ثانيا: مطلب التحليل: تصور أوغيست كونت:

يعتبر كونت من أوائل علماء الإنسان، فإليه يرفع تأسيس علم الاجتماع، وتشكل الفلسفة الوضعية أهم مرجعياته الفكرية التي جعلته يقسم التاريخ البشري في تطوره إلى ثلاث مراحل، المرحلة الأولى التي سماها بالمحلة اللاهوتية، وهي المرحلة التي كان يفسر فيها الإنسان الظواهر البشرية والطبيعية تفسيرا غيبيا مبنيا على الاعتقادات الدينية والأساطير، وهي مرحلة لا عقلية، اتسمت بغياب الفكر المنطقي. ثم المرحلة الميتافزيقية، وقد بدأت هذه المرحلة مع الفلسفة، بوصفها تفكيرا عقليا، لكنه بقي في حدود التأمل، والبحث في الماورائيات. وأخيرا المرحلة الوضعية، وهي المرحلة التي اتسمت بالعلم، وعدم الإيمان إلا بما يثبته العلم، وتجاوز كل أشكال اللاهوت والميتافيزيقا. وبناء على هذه المرحلة بين كونت أن علم الاجتماع هو العلم الذي يعمل على تفسير الظواهر الاجتماعية تفسيرا علميا، بعيدا عن كل أشكال التفسير الأخرى، واعتبر أن الظواهر الاجتماعية لا تختلف عن الظواهر الطبيعية، بل إن المجتمع خاضع لقوانين تشبه قوانين المادة، ولذلك فقد سمى علم الاجتماع في البداية بالفيزياء الاجتماعية، وذلك ليبين عدم اختلافه عن الفيزياء الطبيعية. وعليه فإن الموضعة متحققة بالنسبة للعلوم الإنسانية

ثالثا: مطلب المناقشة: تصور جون بياجي: تحليل نص عوائق موضعة الظاهرة الإنسانية

بدأ بياجي حياته عالم بيولوجيا يدرس الرخويات في جبال الألب بسويسرا، لكنه سرعان ما انقلب إلى علم النفس، وقدم نظريته المشهورة في مراحل النمو العقلي والمعرفي عند الإنسان. أما بخصوص تصوره حول موضعة الظاهرة الإنسانية فيعتبرها صعبة التحقق نظرا للتداخل بين الذات والموضوع، ونظرا لكون الباحث في العلوم الإنسانية جزء من الظاهرة المدروسة، وبالتالي فهو يؤثر فيها ويتأثر بها، مما يصعب عملية إزاحة تمركز الذات حول ذاتها بوصفها عملية مهمة من أجل تحقيق الموضعة، وعموما يمكن الحديث عن سببين بنيويين يصعبان موضعة الظاهرة الإنسانية، السبب الأول هو أن الخط الفاصل بين الذات والموضوع في العلوم الإنسانية غير واضح كما هو الأمر بالنسبة للعلوم الطبيعية، والسبب الثاني هو أن الباحث في العلوم الإنسانية غالبا ما يعتمد على المعرفة الحدسية، وما يحمله من أفكار حول الموضوع المدروس، ويهمل الاعتماد على التقنيات العلمية والموضوعية

رابعا؛ التركيب:

وعموما يمكن القول إن العلوم الإنسانية منذ بدأت وجدت نفسها تتخبط في إشكالية الموضعة، فاختلاف الظواهر الإنسانية عن الظواهر الطبيعية، والتداخل الكبير بين الذات والموضوع، واعتبارا لكون الإنسان دارس ومدروس في الآن نفسه، كل ذلك يصعب عملية الموضعة كأساس لتأسيس العلمية، لكن التطورات التي شهدتها العلوم الإنسانية، خاصة اليوم، جعلتها تقطع أشواطا كبيرة في اتجاه تحقيق الموضوعية، واستطاعت تقديم نتائج جد مهمة، جعلت منها علوما أقرب من العلوم التجريبية، وأبعد من الفلسفة.

إن الإجابة عن الإشكال والمفارقة التي تطرحها قضية الموضوعية في العلوم الإنسانية، قادتنا إلى الوقوف على أطروحات مختلفة ومتباينة، أطروحات تؤكد إمكان موضعة الظاهرة الإنسانية، وأخرى تبرز صعوبة تحقيق ذلك. ويبقى مطلب ومطمح فهم الإنسان وتفسير سلوكاته وما تعبر عنه من ظواهر نفسية، اجتماعية، ثقافية، دينية.. غاية كل جهد وبحث معرفي. فما المنهج المناسب لتحقيق ذلك؟ هل الظاهرة الإنسانية تفسر أم تفهم؟

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق