درس مفهوم التاريخ طبيعة المعرفة التاريخية فكرة التقدم دور الإنسان في التاريخ

درس التاريخ الثانية باكالوريا

التاريخ، دلالة المفهوم وإشكالياته:

 يحيل مفهوم التاريخ على البعد الثالث من أبعاد الوجود الإنساني، فالإنسان هو كائن تاريخي بامتياز، لا يمكن له أن يعيش بمنأى عن التاريخ. وعليه لا يمكن فهم الوضع البشري إلا بفهم الإشكالات التي يطرحها هذا الوضع، والمرتبطة بالبعد الزمني التاريخي. ويعتبر التاريخ هو علم إنساني، يدرس الظواهر الإنسانية التاريخية، إنه بحث في الوقائع الماضية، ومحاولة بنائها من جديد، وذلك قصد تفسيرها أو فهمها. كما يحيل من جهة أخرى على مجموع الأحداث التاريخية التي وقعت في الماضي، ولديها ارتباط بالحاضر. وعليه فإن المفهوم يكتسي طابعا وجوديا بالرغم من البعد المعرفي الابستيمولوجي الذي يطرحه. ما يجعلنا أمام ثلاث إشكاليات أساسية:

- المعرفة التاريخية؛
- التاريخ وفكرة التقدم؛
- دور الإنسان في التاريخ.

المحور الأول: المعرفة التاريخية

تأطير إشكالي: إن أول إشكالية يطرحنا أمامها مفهوم التاريخ هي إشكالية المعرفة التاريخية، فالباحث في التاريخ يكون أمام وقائع وقعت في الماضي، ولم يعد لها وجود، ويكون ملزما بإعادة بناء هذه الوقائع، انطلاقا مما يملك من أثر، وكثيرا ما يكون هذا الأثر بشريا، يمكن أن تتدخل فيه ذاتية الإنسان، خاصة وأن التاريخ في أغلب الأحيان يكتبه المنتصرون. من هذا المنطلق تكون المعرفة التاريخية إما معرفة ذاتية أو موضوعية، ما يجعل التاريخ إما علما موضوعيا أو مجرد سرد للوقائع والأحداث. وانطلاقا من هذا الإحراج يمكن طرح الإشكال التاليهل المعرفة التاريخية موضوعية أم ذاتية؟ وهل التاريخ علم موضوعي أم مجرد سرد للوقائع والأحداث؟

موقف بول ريكور: تحليل نص؛ بناء الواقعة التاريخية

المعرفة التاريخية معرفة علمية، تتأسس على منهج علمي قائم على الملاحظة والفرضية، باعتبارها منهجا نقديا يتأسس على المساءلة، وبالتالي تصبح هذه المعرفة العلمية مبناة وليست معطاة. ولذلك تنطلق هذه المعرفة من استنطاق الوثائق والأحداث التاريخية، ومناقشتها وفق منهج علمي بالرغم من أن موضوع التاريخ يختلف عن زمن المؤرخ.

موقف ريمون آرون: تحليل نص؛ المعرفة التاريخية ورهان فهم الماضي

يعتبر المعرفة التاريخية هي محاولة لإعادة بناء ما كان موجود ولم يعد كذلك، انطلاقا مما بقي منه كأثر تاريخي. لذلك فإن هذه المعرفة بالماضي تختلف عن المعرفة بالحاضر، لأن الأولى تتعلق بعالم غريب عن عالم الحاضر. وبالتالي فإن المعرفة بها لا تتم إلا بعمل منهجي منظم يقتضي جهدا لبنائها في حين تبقى المعرفة بالحاضر تلقائية ومباشرة.

أطروحة / موقف: هنري مارو

يرى هنري مارو أن التاريخ ليس سردا لأحداث الماضي ولا عملا أدبيا لكتابة الماضي الإنساني، إن التاريخ هو معرفة علمية ينشئها المؤرخ عن ذلك الماضي، معتمدا على منهج علمي صارم ودقيق، هدفه الكشف عن حقيقة هذا الماضي.

تركيب للمحور:

إذا كانت المعرفة التاريخية تخص وقائع الماضي، فإن تحصيلها يتطلب شرط البناء تأسيسا على منهج منظم وصارم ودقيق، وذلك بناء على جملة الإشكاليات التي تطرحها هذه المعرفة بما فيها تداخل ذاتية المؤرخ وموضوعية التاريخ، بالإضافة إلى اعتبارها معرفة بالماضي تتم في الحاضر.

المحور الثاني: التاريخ وفكرة التقدم.

تأطير إشكالي: من بين الإشكاليات الوجودية الكبرى التي يطرحها مفهوم التاريخ، نجد الإشكالية التي تتعلق بفكرة التقدم، ذلك أن حركية التاريخ تعرف دوما تقدما، لكن الفلاسفة اختلفوا في طبيعة هذا التقدم، حيث كان هناك تصور كلاسيكي، يرى أن التاريخ يتقدم نحو الأمام، ويسير نحو الحتمية، ونحو نهاية محددة، كما أن له غاية يتطلع إليها، بالإضافة إلى أن تقدمه خطي وتراكمي؛ لكن، في المقابل رأى فلاسفة معاصرون، أن التاريخ لا يتقدم بشكل حتمي، بل تحكمه العرضية، وقد لا يتقدم بشكل خطي، بل إنه يعيد نفسه أحيانا، وليس بالضرورة أن يسير نحو غاية معينة. وبناء على هذا الإحراج يمكن طرح الإشكال التالي:

هل التاريخ يتقدم إلى الأمام نحو غاية معينة وحتمية أم أنه محكوم بالعرضية والفجائية والانتكاس؟

موقف كارل ماركس: تحليل نص التناقض محرك التاريخ

يعتقد ماركس أن ما يحكم التاريخ هو منطق التقدم والتغير والصيرورة، وهذا المنطق قائم على التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، من خلال أن الحياة المادية والواقع الاقتصادي هو الذي يحدد ما هو اجتماعي وسياسي. فالصراع والتناقض هما المحركان الدافعان للتطور التاريخي وفق منحى تقدمي يتطور من نمط إنتاج إلى أخر ويتوج في الأخير بالنمط الاشتراكي الشيوعي.

موقف كلود ليفي ستراوس: تحليل نص التقدم في التاريخ ليس منتظما

يؤكد الاتجاه البنيوي عموما، كما يؤكد ستراوس على أن التاريخ غير محكوم بتطور خطي، بل تحكمه الصدفة والفجائية. فهو أحيانا يعرف التقدم و ذأحيانا أخرى يحكمه التراجع، وأحيانا ثالثة يزاوج بين التقدم والتراجع. فهو كلاعب النرد، فما تكسبه مرة يعرض للخسارة مرات أخرى. إذن التاريخ ليس متصل الحلقات، بل يقفز مرة إلى الأمام، ومرة إلى الوراء.

موقف موريس ميرلوبونتي: تحليل نص الصدفة والعرضية

بالرغم من أن التاريخ حسب ميرلوبونتي يتقدم وفق منطق محدد، كما أن سيرورته خاضعة للضرورة والمراكمة، فهي تبقى سيرورة منفتح،ة وليست نسقا مغلقا بصفة نهائية. وبالتالي فإن دور العرضية يبقى حاضرا وأساسيا في التاريخ. هذا التاريخ الذي يخلف فراغا بين حلقاته، تسمح بتطور المجال الاقتصادي، مثلا، وتراجع المجال الفكري أو العكس.

استنتاج تركيبي:

سواء أكان التاريخ يحكمه منطق التقدم والتراكم أو منطق الصدفة والعرضية، فهو تاريخ مفتوح على التغير والتحول في كل لحظة من لحظات السيرورة التاريخية، ومن هنا يمكننا التساؤل عن دور الإنسان في التاريخ.

المحور الثالث: دور الإنسان في التاريخ

تأطير إشكاليكثيرا ما يتساءل البعض عن دوره في هذا العالم، وإذا ما كان قادرا على تحديد حياته أم هي محددة بشكل مسبق، وهذا تساؤل مشروع إذا استحضرنا إشكالية دور الإنسان في التاريخ، حيث نجد أنفسنا أمام تصورين، الأول يرى أن الإنسان هو الذي يصنع التاريخ، وأن ذات فاعلة فيه، وفي مقابله نجد تصورا آخر، يرى أن الإنسان منفعل بالتاريخ، أي أن التاريخ هو الذي يصنع الإنسان. وبناء على هذا الإحراج، يمكن طرح الإشكال التالي:

ما دور الإنسان في التاريخ؟ هل هو فاعل فيه أم منفعل به؟ منتج أم نتاج؟ أم منتج للتاريخ ونتاج له في نفس الوقت؟

موقف فريديريك هيغل: تحليل مكر التاريخ

يرى هيغل أن التاريخ يتطور وينمو وفق منطقه الخاص، وبناء على شروط محددة بشكل مسبق، حيث أن مكر التاريخ يوهم الإنسان بأنه يساهم في صنعه، بينما هو ليس سوى وسيلة في يد التاريخ. فحتى العظماء والشخصيات التاريخية إنما ينفذون إرادة التاريخ، وإرادة الروح المطلق الذي يسكن التاريخ، والمرتبط بنتيجة تطور المبدأ العقلي المجسد في هذا التاريخ، وحينما ينتهي التاريخ من هؤلاء العظماء، يرميهم كما ترمى قشور فاكهة أفرغت من نواتها.

أطروحة / موقف لوي ألتوسير

يؤكد ألتوسير أن التاريخ عبارة عن صيرورة جدلية لا يتدخل الأفراد كذوات فاعلة في صناعة أحداثه ووقائعه، إنما ذلك راجع إلى نظام البنيات : أنماط الإنتاج وعلاقات الإنتاج، فهي التي تخلق الأدوار الإنسانية وتحدد مسار التاريخ. فالإنسان ليس إلا وسيلة لتنفيذ ما يتطلبه نظام المجتمع وبنياته الاقتصادية.

موقف جون بول سارتر: تحليل نص الإنسان صانع للتاريخ

يحدد الإنسان مشروعه بالاختيار الحر، ومن هنا يمكن إمكانية صناعة تاريخه بناء على شروط واقعية ومادية. هنا لا نتحدث في الشروط السابقة عن قوى خارجية غير بشرية تتحكم في التاريخ بل إن البشر أنفسهم من يصنعونها. فعندما ينفلت التاريخ من قبضة يدي فهذا يعني أن إنسانا أخر يصنعه بالشكل الذي يلائمه. إن الإنسان دائم التجاوز لوضعيته عبر المشروع الذي يختاره وبالتالي فهو الذي يصنع تاريخه داخل حقل الممكنات التي يزخر بها.

أطروحة وموقف لوسيان غولدمان الإنسان ذات فاعلة

ينتقد غولدمان تصور ألتوسير للتاريخ، فالتاريخ حسب غولدمان ليس صيرورة بدون ذوات فاعلة، وليس نتاج بنيات وأنساق (أنظمة) متعالية، وإنما التاريخ نتاج  لممارسة الإنسان وأفعاله وعلاقاته، إن الناس يدخلون في علاقات منظمة  وواعية يحولون الواقع ويحولون علاقات الإنتاج، وما البنيات في مختلف صورها إلا مظهر للعلاقات الإنسانية، ولا يمكن أبدا أن تقوم مقام الذات. معنى ذلك أن الإنسان هو الذي يصنع التاريخ.

تركيب:

يتضح مما سبق أن التاريخ، من جهة، هو صناعة إنسانية، أي أن الإنسان له دور رئيسي في خلق الوقائع والأحداث التاريخية، ويبقى التاريخ جزءا أساسيا من صناعة الإنسان. لكن، من جهة أخرى، يبدو أن الأحداث التاريخية تؤثر في الإنسان، وتجعله منساقا لها، وأن مراحل التاريخ تحدد وعي الإنسان، وتحدد الكثير من سماته. وبناء عليه يمكن القول إن العلاقة بين التاريخ والإنسان هي علاقة تأثير وتأثر، أي أن الإنسان صانع للتاريخ وصنيعة له.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق