المحور الأول الشخص والهوية أساس الهوية الشخصية

الهوية الشخصية مفهوم الشخص مجزوءة الوضع البشري

المحور الأول: الشخص والهوية:

تأطير إشكالي:

إن قضية هوية الشخص هي أول قضية نصطدم بها حينما نود الإحاطة بهذا المفهوم، حيث لا بد من البحث عن جوهره الثابت الذي يجعل من كل شخص هو هو، مطابقا لنفسه، ومستمرا في الزمن، مهما لحقه من تغير عرضي، وغالبا ما يسمي الفلاسفة هذا الجوهر بالهوية، بحيث نجد لدى أرسطو مبدأ الهوية كأول مبدأ من مبادئ الفكر الإنساني، هذا المبدأ الذي يجعل الشيء هو هو، ولا يمكن أن يكون هو وليس هو. وإذا كانت أغلبية الناس تربط هوية الأشخاص بالمعطيات الحسية، فإن الفلاسفة يرون أنها تتجاوز ما هو حسي ومادي وملموس، مما يجعلنا أمام مفارقة. وبالإضافة إلى هذه المفارقة نجد تقابلا يحكم هذه القضية الفلسفية، حيث يرى الفلاسفة أن هوية الشخص ثابتة ومشتركة بين كل الأشخاص، في حين يرى العلماء الإنسانيون أنها متغيرة من شخص لآخر. وبناء على هذا التقابل والمفارقة يمكننا صياغة الإشكال التالي:

على ماذا تتأسس هوية الشخص؟ هل تقوم على المعطيات الحسية أم تتجاوزها؟ هل هي هوية ثابتة أم متغيرة؟

موقف جون لوك: تحليل نص الهوية والشعور

من منطلق الاتجاه التجريبي الذي يرى أن العقل صفحة بيضاء يتم ملؤها بالتجارب، ينطلق جون لوك، مؤسسا هوية الشخص على الشعور أو الوعي، هذا الأخير الذي يربط الإنسان، باعتباره كائنا عاقلا، بذاته، كما يربطه بالعالم الخارجي، وذلك في ارتباطه أولا بالفكر، فالشعور والفكر لا ينفصلان، على اعتبار أن الفكر يعبر عن علاقة الذات بذاتها. كما يرتبط الشعور بالإدراك الحسي، والذي يعبر عن علاقة الذات بالعالم الخارجي، هذه العلاقة التي تمر عبر الشعور، حيث إن الحواس حينما تشتغل يكون الإنسان معرفة عن ذلك بواسطة شعوره، وأخيرا يرتبط الشعور بالذاكرة، بحيث تعمل الذاكرة على ربط الشخص بأفعاله وأفكاره الماضية، ليغدو الشعور حلقة وصل بين الذات وحاضرها وماضيها، ويشكل أساس هوية الإنسان.

موقف آرثر شوبنهاور: تحليل نص الهوية والإرادة

ينتقد شوبنهاور الآراء العامية التي تربط الهوية الشخصية بالجسد، معتبرا أن الجسد يتغير باستمرار، وعليه لا يمكن أن يؤسس الهوية الشخصية. كما ينتقد التصورات الفلسفية التي جعلت من الذاكرة أساس هوية الإنسان، ذلك أن الذاكرة معطى هش وقابل للتلف والنسيان، ومقابل كل حادثة نتذكرها تضيع آلاف الحوادث في بحر النسيان، كما أن كل ما نحتفظ به من حياتنا الماضية يشبه تماما ما يحتفظ به قارئ من أحداث رواية قرأها ذات مرة، وفضلا عن ذلك، قد تتسبب ضربة على الرأس أو مرض أو حمق بفقدان كلي للذاكرة، وعليه فإن الذاكرة لا يمكن لها أن تشكل الهوية الشخصية. ومن جهة أخرى، يعتبر حتى الوعي بعيدا من أن يكون أساسا للهوية، ذلك أن الوعي ليس سوى وظيفة بسيطة من وظائف الدماغ، وأن الذات الواعية ليست هي ذاتنا الحقيقية، بل إن هناك ذات تقبع خلف هذه الذات، وهي الذات المريدة، وعليه فالإرادة هي هوية الشخص الثابتة، وهي نواة الوجود الإنساني.

موقف رونيه ديكارت: تحليل نص أي شيء أنا

في مقابل تصور جون لوك، ينطلق ديكارت من نزعة عقلانية ترى أن العقل هو مصدر المعرفة، هذا العقل الذي يشتغل وفق مبادئه، والتي تتجاوز المعطيات الحسية التي تمدنا بها الحواس، والتي تكون دوما خاطئة، وبالتالي يؤسس هوية الشخص على الفكر، فالذات المفكرة هي الذات الحقيقية. وقد أسس ديكارت تصوره هذا بناء على منهجه الشكي، حيث شك في وجود كل الأشياء، بما فيها ذاته، لكن بعد الشك في كل شيء تبقى عملية الشك في منأى عن الشك، أي أن الشك يقتضي وجود ذات تشك، أي ذات تفكر، وعليه توصل إلى الكوجيطو، أنا أفكر إذن أنا موجود، وهكذا أصبح الفكر مع ديكارت أساس هوية الشخص.

موقف سيغموند فرويد: تحليل نص مكونات الجهاز النفسي

إذا كان الفلاسفة قد اعتبروا أن هوية الشخص ثابتة ومشتركة بين الناس، فإن العلوم الإنسانية قد نفت القول بثبات الهوية، ورأت أنها متغيرة. وتعتبر نظرية التحليل النفسي داخل علم النفس، كأحد العلوم الإنسانية، مع رائدها فرويد، من النظريات التي ألقت الضوء على هوية الشخص، ذلك أن هذه الهوية تتحدد بالصراع النفسي الذي تعيشه الذات بين مكونات الجهاز النفسي الثلاث، والتي حددها فرويد في الأنا والأنا الأعلى والهو، واعتبر أن الأنا توجد تحت رحمة ثلاثة أسياد، فالهو يدفع الأنا إلى تلبية غرائزه من خلال جلب اللذة وطرد الألم، والأنا الأعلى يحث الذات على التحلي بالقيم الأخلاقية ويشعرها بوخز الضمير، في حين يفرض الواقع شروطه، ونتيجة صراع الأنا مع هذه القوى الثلاث المتناقضة تتحدد هوية الشخص.

تركيب ختامي: 

بناء على ما سبق تتضح صعوبة تحديد أساس واحد لهوية الشخص، مما يضفي على هذه القضية طابعا إشكاليا يفضي لعدة تصورات فلسفية، فقد ربط جون لوك الهوية الشخصية بالشعور المرتبط بالفكر والإدراك الحسي والذاكرة، لكن شوبنهاور رفض هذا الأمر، منبها إلى نسبية الوعي والذاكرة، ليقترح الإرادة كبديل، في حين اعتبر ديكارت الفكر هو الأساس الحقيقي للوجود الإنساني. ومن جهة العلوم الإنسانية فقد تجاوزت القول بثبات الهوية، واعتبرتها متغيرة، وذلك في ارتباطها بالصراع النفسي ونتائجه مع فرويد. وبالرغم من هذا الغنى في التصورات، إلا أن الإشكالية بقيت قائمة، نظرا لصعوبة حصر الهوية في أساس واحد، ما يجعلنا نقول إن هوية الشخص تتخذ أشكالا متعددة، وترتبط بالشعور والفكر والذاكرة والإرادة... لتغدو كلها أجزاء لهوية الإنسان الكلية.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق